لعلنا جميعًا سمعنا بخبر الوعكة الصحية التي توشك أن تنعي لنا شخصية نذكرها دائمًا كعلم من أعلام الفكر في سوريا، شخصية ميزت المشهد الثقافي السوري وقدمت محتوى ثقافي ذا أهمية كبيرة. وعكة قد تودي بحياة الفيلسوف والمفكر صادق جلال العظم في مدينة برلين، الرجل الذي ولد في دمشق 1934، ودرس الفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وتابع تعليمه في "جامعة بال" في الولايات المتحدة، وعمل أستاذًا جامعيًا في الولايات المتحدة قبل أن يعود إلى سوريا ليعمل أستاذًا في جامعة دمشق، ومن بعدها انتقل إلى التدريس في الجامعة الأمريكية في بيروت بين 1963 و1969، ومن ثم عمل أستاذًا في "جامعة الأردن"، بالإضافة إلى أنه، في سنة 1969، أصبح رئيس التحرير في "مجلة الدراسات" التي تصدر في بيروت.
كتب العظم عن الفلسفة، وقدّم دراسات ومؤلفات عن المجتمع والفكر العربي المعاصر، ونقد في المفكر المعاصر، وكتب مثل "الاستشراق والاستشراق معكوسًا"، و"ما بعد ذهنية التحريم".. وغيرها.
في كتابه "في الحب والحب العذري" ينفض صادق جلال العظم كل الغبار المتراكم في عقولنا
ولعل أبرز ما عاد إلى ذاكرتي عند سماع خبر هذه الوعكة الصحية التي ألمت به، هو كتابه الشهير "في الحب والحب العذري"، ربما لأنه من أكثر الكتب التحليلية التي فاجأتني في طروحاتها المهمة. ولعله أيضًا من الكتب التي لعبت دورًا في تغير الكثير من اعتقاداتي، واعتقادات شباب كثيرين من أبناء جيلي، عن الحب.
في الكتاب ينفض العظم كل الغبار المتراكم في عقولنا بخصوص مفهوم وخصائص الحب التي اعتدنا الاعتقاد بها تقليديًا، فيقوم بوضع طروحات جديدة تنجدنا من مأزق تساؤلاتنا التي لا نستطيع إيجاد إجابات شافية لها من محض عقولنا، دافعًا إيانا إلى البحث في الكتب والمراجع.
اقرأ/ي أيضًا: الحياة العاطفية للفلاسفة
يطرح الكتاب ملامسة جدية لمجتمعاتنا، عندما يبيّن العظم أن الإنسان الذي يعاني من الكبت والحرمان الجنسي الطويل، لا يميز بين الانجذاب الجنسي والحب، وكثيرًا ما يقع الشخص المحروم في هيام وحب أول إنسان، يبدي نحوه اهتمامًا عاطفيًا حتى ولو كان ذلك من باب المصادفة، فالباعث على حالته ليس الحب بل الرغبات المكبوتة. وهنا يتعامل مع ظاهرة العلاقات الفاشلة التي تنتهي باكتشاف أحد الطرفين، أو كلاهما، أنه لم يكن هناك حب حقيقي لأن الحب تلاشى بعد فترة قصيرة من الزمن، بالإضافة إلى شرحه سلوك العاشق، أو العاشقة، في هذه الحالة، وهذا الصنف من العلاقات، وكما نعرف ونرى حقًا هذا الإشكال كثيرًا في مجتمعاتنا.
تبدأ مفارقة الحب في الكتاب، بين بعدي الاشتداد والامتداد، فالامتداد يعني دوام الحالة العاطفية واستمرارها، والاشتداد هو مدى حدة العاطفة في لحظة معينة من الزمن، وعلى هذين العنصرين تتغير أشكال العلاقة وقوة الحب.
يشير العظم في الكتاب إلى أن الحب ليس ماهية واحدة، بل هو مفهوم مجرد يشير إلى أطياف من المشاعر والأحاسيس، وحسب رؤيته فإن الحب في مرحلة ما بعد العبور من طور الانجذاب الجنسي، وتخطيه إلى ما هو أهم وأكثر تعقيدًا، يشمل كيان الإنسان، جسدًا وعقلًا وروحًا. وما يشير إليه هنا يمثل نقطة مهمة للدخول في عمق الكتاب وتحليله، القائم على أن المرأة أيضًا قادرة على الحب مثل الرجل، وتستطيع جذب الرجل، على عكس ما زرع في عقولنا.
يتجلى مفهوم "مفارقة الحب"، كما أشرنا، في أن عاطفة الحب لها بعدان أساسيان هما الاشتداد والامتداد. الامتداد في الزمان يعني دوام الحالة العاطفية واستمرارها، بينما الاشتداد هو مدى قوة وحدّة الحالة العاطفية في لحظة ما من الزمن، لكنه يشير أيضًا أنه كلما طالت مدة الحب تنخفض حدته، وأما الامتداد فهو الرغبة في بقاء العلاقة وتحقيق الثبات النسبي، لكن من منظور العظم نرى أن شريعة الامتداد هي جعل الزواج خاتمة للحب، وذلك بطبيعة الحال يصب في الأيديولوجية الاجتماعية السائدة، التي تسعى بطريقتها تلك للحفاظ على ثبات المجتمع واستمراريته، وكما يرى صاحب "مأساة إبليس" فإن الوفاء آلي في العلاقة بين الزوجين، ومن يلتزم بالامتداد ويعمل على إشباع حبه بواسطة الزواج عليه أن يدفع الثمن، بأن يفقد كل ما يملكه الحب من صلة مع اندفاعات ورغبات عارمة وانفعالات.
الزوج الوفي، وفقًا للعظم، من لا ينظر إلى أطراف الطريق، ويلتزم بآلية تراتبية بين البيت والعمل
من صفات الزوج الوفي وفقًا لهذا المنطق، هو من لا ينظر إلى أطراف الطريق، ويلتزم بآلية تراتبية بين البيت والعمل، بينما تتمثل صفات الزوجة الوفية كما حددها العظم بأن تكون وفية وساذجة وطاهرة وبريئة، وبأن لا تعرف شيئًا من تجارب الحياة، وبأنها تؤمن إيمانًا كاملًا بفضل زوجها عليها، وأن واجبها يكمن في طاعة زوجها طاعة كاملة، والزوجان الوفيان يحظيان بتوصيف من العظم أنهما يعيشان مع بعضهما على طريقة "مكره أخاك لا بطل"، وكما أن الزوجين الوفيين يكونان في نظر المجتمع عماد الخلية والعامل الأول لاستمرار المجتمع ودوامه.
اقرأ/ي أيضًا: طبخ الحب
وكوصف لتناقض المجتمع مع القصص الشعبية عن الحب، يصف العظم ذلك بالمرضي والخارج عن المعقول، كتعبير عن تلك النفس المكبوتة، وأن هذه الأساطير ماهي إلا تنفيس لتلك الطاقة الحبيسة، بأن تلك القصص التي تتحدث عن مغامرات فلان، وقصص الشرف و... غيرها، تلعب دورًا رئيسيًا في حفظ التوازن في العلاقات الاجتماعية السائدة، عندما تمتص تلك الأقاصيص الميول والرغبات، وتهدئ من عنفها ولا تدعها تنفجر، وذلك جزء لا يتجزأ من الأيديولوجية السائدة.
أما الاشتداد فهو تحقيق الحب بأقصى درجات الانفعال والجيشان العاطفي، وكما دعاه، وكما هو متعارف عليه أيضًا، بالمغامرة الغرامية، ويشرح أو يوضح رغبة الاشتداد الذي طرحها عن طريق تفسير أو تحليل شخصية الدنجوان وسماته، بوصفه مثلًا أعلى لرغبة الاشتداد في الحب، فهو من يرغب في العشق في المستوى العنيف والانفعال الحاد، ويرفض القيم والمعايير الاجتماعية السائدة، لهذا يكون مُحاربًا دينيًا واجتماعيًا، لكن أيضًا يوجد تنويه مهم في الكتاب الى أن هناك فرق بين الدنجوان ومن تتيح له ظروفه الخاصة بالاستمتاع، ويقصد هنا الإشارة إلى عهد الجاريات، والظروف التي كانت تتيح لصاحب المال بأن يحظى بالكمية التي يريد من الجاريات.
أثناء غوصه في تحليل الحب العذري، يشير العظم إلى أن بعض الكُتّاب قالوا إنه نسبة لقبيلة بني عذرة، ووصفوا الحب العذري بأنه يقوم على العفة والوفاء، وبأنه انتصار للروح على الجسد، وأنه الحب الذي يتعامل معه العاشقون بأنهم يريدون إنهاءه بالزواج، لكن العظم يقوم بتحليل هذه الظاهرة مستخدمًا القصة الشعبية الشهيرة "جميل وبثينة"، كمثال أو نموذج لما يدعى بالحب العذري، فيقوم بذكر الحادثة التي تعرّف فيها جميل على بثينة، ويذكر أيضًا أنه من المعروف والسائد في عادات القبيلة بأنهم كانو يحرمون التغزل بالنساء، وأنهم كانوا يحرمون الزواج على من يقوم بالتغزل، وهنا يطرح تساؤلًا: لماذا لم يمتنع جميل عن التغزل ببثينة طالما كان يحبها، ويبغي الرباط المقدس معها؟ وطالما أن الحب العذري كما يقولون عفيف وطاهر؟
من هنا تبدأ فكرة أن من خصائص الحب العذري هي خرق مؤسسة الزواج، وليس العكس، وتقود التساؤلات إلى أنه إذا كان الحب العذري يتصف بالعفة والطهارة، فلماذا جميل كان يزور بثينة في عقر دارها مع عدم رضا أهلها وزوجها؟
من خصائص الحب العذري خرق مؤسسة الزواج، كما يقول العظم
ومن الطريف في نقد العظم لتلك القصص، أنّ من يقرأ تلك القصص يجد نفسه يكره الزوج الذي يصبح الأبله والغبي في نهاية الحكاية. وهنا يسرد إحدى قصص زيارة جميل لبثينة، ويقول إن جميل كان من عشيرة ثرية وذات مكانة، وإنه كان يعلم بأنه مهما فعل فلن يرفض أهل بثينة طلبه لزواج منها، ولن يقوموا بأي عمل ضده خوفًا منه. فإذا كان هذا واقع الحال فما الإشكال في زواجهما؟! نلاحظ في هذه القصة أنه هناك شبه بين العاشق العذري والعاشق الدنجوان، لرغبتهما في "اشتداد الحب"، لكن الفرق أن الدنجوان ينتقل من حبيبة إلى أخرى، لكن العاشق العذري يكثف حبه باتجاه حبيبة واحدة، لكنه في ذات الوقت يضع العراقيل بينه وبينها لكي يبقي نار الحب مشتعلة، ويطرح العظم مثالًا آخر للتحليل والنقد في الحب العذري، وهو عفراء وعروة، اللذان قال فيها عمر بن الخطاب بأنه لو عاصرهما لزوّجهما.
اقرأ/ي أيضًا: موسم الارتداد عن الحب
يرى العظم أن من ميزات الحب العذري أنه يتمتع بشيء من "السادوماسوكية"، فهو تعبير عن حالة مرضية في عمق قلب العاشق، مما يجعله يتمتع بحرقة الشوق الذي لا أمل في إشباعه، حيث يتحول الحب إلى ذات العاشق، بينما تكون العشيقة مجرد أداة أو وسيلة لذلك الهدف.
وفي متابعة لما وصفه العظم بالظاهرة التي تَنتج عندما ينحدر الحب العذري في المجتمع، لا سيما المجتمع الذي يعاني الكبت العاطفي والغرامي، ليقع في أيدي أشباه العشاق أو العشاق "الدونكيشوتيين" كما وصفهم، وهم من يتقمصون صور مسبقة للحب ويسمحون لها أن تتغلغل في قلوبهم، وتتحكم في حركاتهم وسلوكهم ومخيلتهم وأحلامهم، فهم يضعون أنفسهم في قالب جاهز للحب، وهم أيضًا يعانون من مشكلة أنهم يقعون في حب أي فتاة يصادفونها، فهم لا يميزون بين الحب الذي يقوم بطبيعته على الانتقاء والاختيار، وبين شهوتهم المكبوتة التي تطلب الإشباع فقط، وهم أيضًا من النوع الذي يرفض التصريح للحبيبة عن حبه وما يجول في صدره، لغرض يرغبون به، وهو تعقيد الأمور واستكمال صورة العاشق المعذّب.
كما يرى العظم في نهاية الدراسة والتحليل في مفارقة الحب أنه يستحيل تحقيق حل مثالي للإنسان، مادام يحيا ضمن نطاق الزمان والصيرورة، وأن كل إنسان يعي الإشكال الذي ينطوي عليه الحب، ويدرك أهميته وطبيعته، يعرف بأن عليه أن يواجهه في نهاية الأمر.
اقرأ/ي أيضًا: