شهدت العقود الأربعة الأخيرة محاولات أمريكية متعددة "لتطويع" كرة القدم بهدف جعلها متناسقة مع الرياضات الشعبية الأمريكية الأخرى، وهي كرة القدم الأمريكية والبيسبول والهوكي على الجليد وكرة السلة، وذلك من أجل إضافتها إلى واجهة الصناعة الترفيهية الأمريكية التي تتضمن رياضات أخرى كالمصارعة الحرة والملاكمة وغيرها. ورغم ذلك، لم تنجح المحاولات العديدة في الوصول إلى هدفها، وكان آخرها محاولة "مصادرة" كرة القدم في مهدها وهي القارة الأوروبية وبريطانيا تحديداً من خلال فكرة بطولة السوبر الأوروبي، إلا أن الرفض الجماهيري والرسمي حال دون ذلك.
وبالنظر إلى أكثر الرياضات شعبيةً في الولايات المتحدة، سنجد أنها مأخوذة من رياضات قديمة ومعدلة بشكل يجعلها أكثر جاذبية وفردانية، حيث أنها تعتمد على بروز نجم الفريق الأول ثم المنظومة، فكرة القدم الأمريكية هي نسخة مطورة من رياضة الرغبي الشهيرة في أوروبا، تحديداً في فرنسا وبريطانيا ودول الكومونويلث، إلا أن النسخة الأمريكية منها تقوم على وجود نجمٍ للفريق وهو الظهير الربعي، المسؤول عن تمرير الكرات وصناعة "الأهداف" إن صح التعبير. علاوةً على ذلك، اكتسبت كرة القدم الأمريكية شهرة كبيرة من خلال إقحامها في الإنتاج الدرامي والسينمائي الأمريكي، فالعديد من المسلسلات والأفلام الشهيرة تضمنت شخصياتٍ تمارس هذه الرياضة، وتحديداً تلك الموجهة إلى المراهقين، إضافةً إلى وجود فرقة "المشجعات" التي لطالما حضرت في الواقع الرياضي والدرامي لهذه الرياضة، وهو ما أكسبها زخماً جماهيرياً كبيراً رغم عدم وضوح قوانين اللعبة بالنسبة للكثيرين. ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في شعبيتها، هي دمج العروض الفنية مع المباريات الرياضية، وهو ما يظهر جلياً في المباراة النهائية التي تسمى "Super Bowl" وهي الحدث الرياضي الأكبر سنوياً في الولايات المتحدة، حيث يبدأ بعرض للطائرات الحربية فوق الملعب راسمةً ألوان العلم الأمريكي، وتتخلل المباراة فقرات فنية غنائية بين الشوطين لأهم نجوم البوب والموسيقى الأمريكية، إضافةً إلى الأرقام الخرافية للإعلانات خلال المباراة، فبحسب NBC Sports فقد كلف الإعلان الواحد لمدة 30 ثانية في المباراة النهائية لعام 2021 مبلغ 5,5 مليون دولار! وهو ما يؤكد أن كرة القدم الأمريكية هي جزء من الصناعة الترفيهية وتتعدى كونها مجرد رياضة جماهيرية.
كذلك الأمر بالنسبة للبيسبول، وهي رياضة مأخوذة من الرياضة البريطانية المعروفة بالكريكيت، وهي رياضة انتشرت في بريطانيا ودول الكومونويلث، تحديدا باكستان والهند وأستراليا وجنوب أفريقيا، لكن كما كان الحال في كرة القدم الأمريكية، أضاف الأمريكيون لمستهم الخاصة لتحويل الكريكيت من رياضة جماعية إلى البيسبول التي يبرز فيها النجم الرامي للكرات والنجم الآخر المتصدي لها من خلال عصا البيسبول الشهيرة، والتي كانت حاضرةً أيضاً في العديد من الأفلام الأمريكية ليست كأداة رياضية فحسب بل كأداة للعنف أيضاً!
أما المثال الأبرز فهو المصارعة الحرة، وهي رياضة عريقة عبر التاريخ اشتهرت باسم المصارعة الرومانية، كما أنها موجودة في الأولمبياد ولها أبطالها، وكما هي العادة، فقد عمل صناع الترفيه الرياضي في الولايات المتحدة على دمجها مع الملاكمة وإصدار رياضة جديدة لا قوانين واضحة لها، تقوم على العنف أو بالأحرى على تصنّع العنف، حيث يعتبر الكثيرون أن المصارعة الحرة هي مجرد تمثيل لا أكثر، وبغض النظر عن صحة هذا الادعاء من عدمه، إلا أنها تبقى من أكثر الرياضات التي أثرت ولا تزال تؤثر في حياة العديد من المراهقين والأطفال، وذلك من خلال العروض المتوهجة التي يقدمها المصارعون أمثال جون سينا وأندرتيكر وغيرهم، خصوصا من خلال الأزياء الخاصة التي يرتدونها والموسيقى والمؤثرات البصرية والضوئية وغيرها، مما يجعلها مساحةً مثالية للترفيه ومصدراً أساسياً للأرباح، وجميعنا يذكر كيف أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد شارك في حلبات المصارعة الحرة منذ سنوات في مشهد لا يُنسى!
ورغم المحاولات الأمريكية العديدة لتغيير بعض القوانين في كرة القدم مثل طريقة تنفيذ ضربات الجزاء وغيرها، لم تنجح هذه المحاولات في وضع كرة القدم في مقدمة الرياضات الأمريكية الشعبية لعدة أسباب، أهمها كون كرة القدم رياضة جماعية أولاً، وأنه لا توجد توقفات أو وقت مستقطع أثناء المباريات، مما يجعل موضوع الإعلانات محدوداً باستراحة ما بين الشوطين فقط، وذلك بعكس كافة الرياضات الأمريكية الأخرى التي يتم فيها إيقاف المباريات لدقيقة أو أقل مما يتيح عرض المزيد من الإعلانات، لذلك لا تبدو كرة القدم جذابةً للإعلانات خلال المباريات كونها مستحيلة التوقف.
ومن أجل زيادة شعبية كرة القدم عمل القائمون على الرياضة في الولايات المتحدة على اتخاذ خطوات عديدة، كان أهمها استضافة مونديال 1994، وجذب اللاعبين النجوم الذين تقدموا في العمر قليلا أمثال بيكهام وجيرارد وغيرهم، ولا شك أن ذلك ساهم في زيادة الشعبية وانعكس ذلك على الأداء المتصاعد للمنتخب الأمريكي في بطولات كأس العالم حيث يبدو التقدم في المستوى واضحاً، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لأباطرة الصناعة الترفيهية، فحاولوا مصادرة كرة القدم في أوروبا بالتعاون مع رؤساء أكثر الأندية شعبيةً، وللمفارقة أن أكبر ناديين في إنكلترا وهما ليفربول ومانشستر يونايتد مملوكان لإدارات أمريكية، وكان للرئيس التنفيذي المستقيل من نادي مانشستر يونايتد "إد وودوارد" دوراً كبيراً في تأمين التمويل لبطولة السوبر الأوروبي وذلك عبر البنك الاستثماري الشهير JP Morgan حيث قدم المصرف مبلغ 4 مليارات دولار لإطلاق البطولة، ولم يكن ذلك ليحدث لولا أن "وودوارد" كان يعمل في البنك ذاته قبل توليه إدارة اليونايتد، وهو ما يفسر استقالته بعد فشل فكرة البطولة حيث أنه أخذ على عاتقه أهم الخطوات وهي إيجاد التمويل المناسب.
صحيح أن بطولة السوبر الأوروبي لم تكن لتغير في قوانين كرة القدم، إلا أنها كانت ستساهم في إضافتها إلى قائمة خدمة "الدفع مقابل المشاهدة – Pay per view" وهي الفكرة الشائعة التي يتم تطبيقها لكل الرياضات المختلفة، حيث تقوم هذه الفكرة على تجزئة المباريات، ولا يكفي أن يشترك المشاهد في خدمة البث حتى يستطيع المشاهدة، بل يتوجب عليه الدفع الإضافي لمشاهدة مباريات معينة، بإمكان المشتركين مثلا مشاهدة كل مباريات كرة القدم الأمريكية باشتراك واحد، إلا أن عليهم دفع مبالغ إضافية لمشاهدة المباراة النهائية، وهي إحدى الأفكار التي كانت ستطبق في حال نجاح فكرة السوبر الأوروبي، علماً بأن شركات مثل Amazon Prime قد بدأت بالفعل باحتكار بعض مباريات الدوري الإنكليزي منذ الموسم الماضي وتطبيق هذه الفكرة، وهو ما سيجلب الملايين للأندية ولشركات البث التلفزيوني الذي كان الدافع الأساسي وراء بطولة السوبر الأوروبي، حيث اعتمد منظموا البطولة على جماهيرية الأندية وتأكدهم من أن المشجعين سيدفعون المبالغ المطلوبة لمشاهدة فرقهم، وهو ما يدل على الشغف الكبير الذي يحمله مشجعوا كرة القدم في قلوبهم، وهي الفكرة ذاتها التي تبدو عصيةً على استيعاب صناع الترفيه على الطريقة الأمريكية، فكانت هي الدافع الأساسي لمحاولات الاحتكار، والعامل الرئيسي في فشل تلك المحاولات في وقتٍ واحد!
اقرأ/ي أيضًا:
أهمّ حدث رياضي في الولايات المتّحدة.. كانساس سيتي بطلًا لـ"السوبر بول"
به أصبحت NBA أقوى بطولة في العالم.. ما هو نظام "الدرافت"؟