شارفت العجلة الحربية المُزركشة بالأحمر على الوصول لخط النهاية، ويجلس الفُقراء في أعالي السيرك العظيم يترقبون مرور هذه العربة على الخط. هناك من ينتظر المال الذي سيطعم به أولاده الليلة بعد كربةٍ ستنتهي الآن، ومنهم من عاهد نفسه على ألا يأتي لهذا المسرح مرةً أخرى. ينتهي السباق ويجري المئات إلى مُتعهِّد الرهانات ليأخذوا نصيبهم من مكسب اليوم. تكرر هذا المشهد يوميًا في روما القديمة حتى سقوطها.
عالم اجتماع بريطاني: "زرعت المراهنات جذورها السامة بطول وعرض الأرض، حاملة معها البؤس، الفقر، ضعف النفوس والجريمة"
تحول هذا المشهد أكثر من مرة على مرِ العصور، وصار الآن مجموعة من التطبيقات على الهاتف الذكي لا تحتاج من مستخدمها التحرك من أمام شاشة التلفاز. يُشاهد مباراة وقد لا يشجع أحدًا من طرفيها، ولكنه يعلم أن هناك فريقًا فائزًا سيضُخ الدولارات لحسابه البنكي دون بذل قطرة عرق واحدة.
المراهنات في صورتها الأصلية
بدأت المراهنات بشكلٍ ودي غير مُنظم في بدايتها، وهذا على عكس الصورة التي نراها بها الآن. كانت سهرات الليل في المقاهي والحانات هي المركز الأول لعمليات المراهنة، فإن كان هناك سباقٌ للخيل سيتم عقد الرهانات عليه بين المعارف وبعضهم بين مختلف طبقات المجتمع. ليتحول هذا النظام مع وصول القرن التاسع عشر من مجرد هواية بين البعض إلى منظومة كاملة الأركان.
سباق الخيل كانت رياضة شعبية في القرن التاسع عشر، مثلها مثل سباقات العجلات الحربية في الـ"ماكسيموس سيركس". من الطبيعي وقتها أن تكون الرياضة التي يُراهن عليها المعظم هي سباق الخيل، وقد كان. استوحي نظام المراهنة وقتها من النظام الموضوع في القرن السابع عشر، وهو وضع أموال المراهنات كلها في الملعب أو المسرح وتوزيعها لاحقًا على الفائزين بعد خصم نسبة المنظومة وأرباح المتسابقين منها.
هذا النظام لم يخدم سكان المدن الفقيرة الذين لا يستطيعون الوصول لأرض السباق. وقتها الرهانات "الودية" كانت طاغية على المدن الفقيرة، مثل بيرمينجهام، في الحانات وما شابهها من أماكن التجمعات لفئة عمال المصانع الفقراء مع بداية الثورة الصناعية في المدينة. رهانات غير رسمية قد تنتهي بالاحتيال أو حتى القتل، وكان يجب أن تتوقف بشكلٍ أو بآخر.
دخول متعهدي الرهانات في الصورة
"زرعت المراهنات جذورها السامة بطول وعرض الأرض، حاملة معها البؤس، الفقر، ضعف النفوس والجريمة" -سيبوم راونتري، عالم الاجتماع البريطاني عن متعهدي الرهانات ونشاطهم.
كانت إنجلترا هي أم الرهانات في القرن التاسع عشر، ولنفس الظروف المذكورة بسبب انتشار رياضة سباق الخيل وزيادة معدلات الفقر بين الطبقة العاملة في المملكة البريطانية. مع الثورة الصناعية التي خسفت بهذه الطبقة. ولّد الفقر الطمع، وصارت الرهانات أكثر وأكثر حتى بدون حضور السباقات التي لم تكن مُتاحة لهذه الطبقة، وهذا بسبب تكلفة المواصلات والتذاكر.
الرهان خارج أرض السباق كان مخالفًا للقانون. لا يحق لأي متعهد أن يجمع أموال المراهنات خارج حلبات السباق، ولكن القانون لم يقف أمام الجشع. هنا ظهر مصطلح الـ "Bookmaking"، وهو تعيين متعهد يرصُد جميع السباقات داخل وخارج المدينة ويضع مُعدلات المكسب لِكُلِ حصان إن فاز أحدهم بالرهان عليه. الشكر يرجع لنظام التلغراف الذي سهل معرفة النتيجة للجمهور والمتعهد، والذي يجده السكان في الأغلب داخل الحانة الأكثر شعبية في كل منطقة.
يجمع المتعهد أموال الرهانات ويعطي السندات لعملائه، وبدورهم يذهبون له بعد إعلان النتيجة لتحصيل الأموال التي فازوا بها. كل ما يجري داخل هذه الحانة غير قانوني، والمتعهد هنا خارجٌ على القانون يُسكت الشرطة بنسبة أو يطلق عيونه على هيئة مجموعة من الصبية ينتشرون حول مكانه ليبلغوه إن كانت الشرطة قادمة أم لا.
حال بريطانيا وقتها، بشكلٍ عام، كان مشابه إلى حدٍ كبير باقي الدول في القارة. ظلّت المراهنات مجرّمة في معظم الدول حتى مطلع القرن العشرين، وتستثنى دول مثل فرنسا التي قننتها في 1907، أو حكمت بقوانين مُعقدة ضمنت ثغرات قانونية للمتعهدين.
دور السكك الحديدية في عالم المراهنات
كان للسكك الحديدية دورًا مؤثرًا في عالم الرهانات، خاصةً في المملكة البريطانية، مع ظهور كرة القدم بشكلٍ أقوى في مطلع القرن العشرين. سنّت وقتها المملكة المتحدة وإيطاليا القوانين لهذه المسابقات، والتي لم تُعامل نفس معاملة الرهانات وقتها، بل الثغرة التي هربت منها كانت أن المراهنات التي تسجل وقتها كانت "منافسة مهارية" لا تمط للجرائم لمسجلة في قانون 1934 للقمار في المملكة المتحدة.
قطارات حكومية تمر على عدة مدن في آنٍ واحد قبل بداية أسبوع الدوري الجديد وعلى متنها المتعهد، وتقف هذه القطارات في المحطات ليبدأ بتوزيع تذاكر الرهانات. لا يُراهن العميل على مباراةٍ واحدة، بل يراهن على كل مباريات الأسبوع بتوقعه للفائز في كل مباراة. هذه التذاكر تجمع لاحقًا وتختم بوقت التسليم، ويكمل المتعهد رحلته للمحطة القادمة.
بعد نهاية أسبوع المباريات الجاري، يمر نفس المتعهد مرةً أخرى ليسلم المال للفائزين ويُحصل تذاكر الأسبوع الجديد، وتعاد الكرة مع كل أسبوعٍ في الدوري. تتحول محطات القطار إلى مكاتب رهانات مفتوحة بسبب هؤلاء، ولكنها لم تصمد طويلًا حتى جاء القانون الذي وضع أسس الرهان؛ قانون المقامرة والألعاب الذي سمح لمتعهدي الرهانات بفتح متاجرهم الخاصة في عام 1961.
ظهور متاجر الرهانات وسقوطها المدوي
بعد مكاتب الرهانات في حلبات السباق والمسارح، ظهرت الآن متاجر الرهانات بمُتعهديها. يذهب العميل إلى المكتب ليختار المباراة أو السباق الذي يريد المراهنة عليه، ويعرض عليه المتعهد نسب الربح للنتيجة. يتم التحصيل بعدها من نفس المتجر في الحي، ومع مستنداتٍ قانونية تحمي الطرفين عوضًا عن التعامل مع مُتعهد لا يعطي أي ضمانات للمراهن.
كان هذا الغرض الأصلي من القانون، ومع ازدهار كرة القدم بعد الحرب العالمية الثانية، صارت هناك مساحاتٍ أكبر للمراهنة التي أصبحت جزءا من الثقافة الرياضية لدى معظم الشعوب الأوروبية. أموال تتداول في أيدي من لا يستحقها والحكومة لا تأخذ منها شيء، وتقنين الوضع كان أمرٌ لا بد منه.
في أول خمس أعوام من بداية التراخيص، أصدرت المملكة المتحدة حوالي 16 ألف رخصة لـمتاجر الرهانات. مع مرور الوقت وظهور الإنترنت، سقط عدد المتاجر بدايةً من 2010 ليصبح عدد هذه المتاجر 6219 متجرًا فقط في بريطانيا وفقًا للإحصائية التي نُشِرت في مارس/ آزار 2022.
التحول الرقمي يقفز بصناعة الرهانات
هناك الملايين من الناس على استعداد لوضع أموالهم في هذا النشاط حول أنحاء العالم، وهناك قيودٌ كثيرة تمنعهم من هذا. كمثال; لا توجد مكاتب رهان في الدول العربية وبعض دول شرق آسيا. المُراهنة عن بُعد صارت متاحة لهم، حتى لو كانت هذه النشاطات غير مشروعة، وبالتالي نمت هذه الصناعة مع نمو الإنترنت والأجهزة الذكية.
صار من الممكن المراهنة على أي رياضة الآن من خلال هذه التطبيقات والمواقع، والميزة التي فضلها المراهنون هي أن القيمة الأدنى للرهان في متناول الجميع. أي شخص يمكنه المراهنة ببطاقة تعريفية، حتى لو كانت مسروقة أو غير حقيقية، وبطاقة ائتمانية فقط لا غير.
النمط الجديد للمراهنات يُرضي جميع الأطراف، فالمُراهن سيجد كل الرياضات، حتى الرياضات الإلكترونية، متاحة للرهان عليها بأرقامٍ قد تبدأ من 10 دولارات. الشركة التي تدير عملية الرهانات ستقل تكاليفها، وهذا لأنها في الأغلب تستضيفها في دولة ضرائبها قليلة لتحقق أعلى ربح، وسيكون هذا أرخص من تكلفة المتاجر.
الكارثة هنا هي أن أي شخص يُمكنه المراهنة، حتى الأطفال. كل ما يحتاجه صغار السن هو البطاقة الائتمانية وستبدأ رحلته في هذا العالم المظلم. هذا في مصلحة الموقع بالتأكيد، والذي لا يحمل المسؤولية بأي شكل من الأشكال، وسيصل بربحه للـ 44 مليار دولار التي من المقرر أن تصل لها هذه الصناعة في أنحاء العالم.
مُساهمة الأندية في نمو هذه الصناعة
هذه الممارسة التي يرى الكثير أنها غير أخلاقية ساهمت كرة القدم تحديدًا في نموها. الأندية الصغيرة بالأخص هي المعنية بهذا، والتي تحتاج إلى عقود رعاية ضخمة حتى تُكمل مسيرتها في الدوريات الممتازة. تعرض الشركة مبالغ لا يمكن رفضها على النادي، والذي بدوره يطبع شعار الشركة على قميصه ليراه الملايين في أنحاء العالم لعرض العلامة التجارية على الصغار قبل الكبار.
الصورة التي تريد هذه الشركات رسمها هي صورة أكثر شمولية من خلال تعاقدها مع هذه الأندية، فكُرةُ القدمِ التي تُجرِّم الفكرة في الأصل وتمنع لاعبيها من ممارستها صارت هي المُروِّج الأول لها. هذا على عكس رياضات القتال مثلًا، والتي ترشح لك المواقع والمنصات بنفسها مع المكاسب المقترحة لكل مقاتل يدخل حلبة القتال.
حوادث التلاعب بالمباريات لمصلحة الرهانات
هناك علاقة بين المنظومات الرياضية وبعض شركات الرهانات، وتتلخص مصلحة الأخير في أن تنتهي المباريات على عكس النتيجة المُتوقعة لضمان أكبر هامش ربح ممكن. كمثال، حادثة "الكالتيشوبولي" في 2006 كانت من أبرز الحوادث التي ضمّت كِبار أندية إيطاليا، والتي تم تحديد نتائج مبارياتها قبل لعبها لمصلحة شركات المراهنات وقتها.
الحادثة التي كان الطرف الألمع فيها فريق يوفنتوس، والذي حسم لقب الدوري وقتها، تضمنت تلاعب في نتائج المباريات للفريق الذي ضمن فوزه بالبطولة. التحقيق ضم اليوفي، الميلان، لاتزيو وفيورنتينا، والعقاب الأصعب كان من نصيب السيدة العجوز بتجريد النادي من لقبي دوري وهبوطه للدرجة الثانية.
حتى في آسيا، والتي تُجرِّم الكثير من الدول الرهانات فيها، أصابتها هذه الحُمى في مسابقات الدوري الماليزي. ظهرت هذه الواقعة للنور بعد تسريب عدة مقاطع للاعبين وهم يوافقون على التلاعب بنتائج المباريات، وكل من شارك فيها حرم من لعب كرة القدم مدى الحياة.
ما قد يجعل أي جهاز إداري لأي مسابقة كرة قدم يشك في التلاعب بالمباريات هو وجود رهانات غريبة بكثرة على مباراة بعينها. كمثال، مانشستر يونايتد سيواجه لوتون تاون، فتزيد الرهانات بشكلٍ غير مفهوم على الفريق الذي صعد لتوه للدوري الممتاز ويفوز لوتون في النهاية بالمباراة. هذا السيناريو غير الطبيعي قد يجعل الاتحاد الإنكليزي يفتح تحقيقًا في الحادث للتأكد من عدم وجود أي تلاعب في المباراة.
العاملون في قطاعات كرة القدم ممنوعون من المراهنات
اللاعبون، المدربون، الحكام، الجهاز التدريبي وحتى العاملون في فرق كرة القدم، ليس لهم الحق في المراهنة بأي شكلٍ من الأشكال. اللاعبون، المدربون والحكام أكثر حساسية من أي فئة أخرى، وهذا لأن المراهنات من خلالهم تخلق صراعًا بين تأدية الواجب والربح. كمثال، يمكن للمدرب أن يحدد تكتيكات خاسرة لأنه يراهن على فريقٍ آخر، بالأخص إذا حسم بالفعل البطولة التي يتنافس فيها.
اللاعبون قد لا يؤدون دورهم بالشكل الطبيعي في المباريات التي يراهنون عليها ضد فريقهم، وهذا لتعمُّد الخسارة أمام الفريق المنافس لتحقيق الربح من الرهانات. هناك أيضًا من قد يتسبب في إنذار أو طرد لنفسه حتى يفوز ببند البطاقة الصفراء في الرهانات، وهذا ما جعل الاتحاد الإنكليزي يحقق مع لوكاس باكيتا لاعب ويست هام الذي ارتفعت الرهانات على احتمالية حصوله على بطاقة صفراء.
الطاقم التحكيمي هو الأكثر حساسية هنا، لأنه يضُر الفرق غير المُذنبة بشيء في سبيل تحقيق الربح، وفي الأغلب هم أهداف من لهم مصالح في الرهانات، بالتحديد، الرهانات غير القانونية.
كيف يراهن اللاعبون بدون معرفة الأجهزة التنظيمية؟
تُراقب الشركات والجهات المختصة كل عمليات المراهنات، وهذا لمعرفة إن كان هناك لاعبٌ أو شخصٌ مرتبط بكرة القدم من قريبٍ أو من بعيد قد دخل في مجال المراهنات. يلجأ اللاعبون لحلولٍ بديلة، ومنها الرهان من خلال الأصدقاء والأقارب، مثل إيفان توني الموقوف حاليًا، أو اللجوء إلى مواقع خارج البلاد لا تخضع لقوانين الرهان الدولية.
هذه السُبُل تضيق على مستخدميها يومًا بعد يوم، خاصةً مع حظر هذه المواقع، وفي عصر البيانات الكبيرة التي يمكنها أن ترسم صورة كاملة لعلاقات اللاعبين بالمُراهنين عليهم أو ضدهم. تبقى الرهانات في النهاية مُضرة لجميع الأطراف، سواء كانت للمراهنين أنفسهم أو للفرق، وستظل في حاجة لمراقبة أشد مع التطور التكنولوجي الرهيب. ولكن; ورغم كُلِ هذا؛ المراهنات هي صناعة راسخة ومتنامية ستستمر في التطور في السنوات القادمة.
هذا التطور سيكون مع تقنياتٍ جديدة، وقد يتغير مفهوم الرهان بأكمله وقتها ليخرج حتى من نطاق الرياضة. الممارسة كلها تظل في خطر مع زيادة التوعية، ولكن جهود الشركات التي تقف وراءها مستمرة وفعالة بحسب الأرقام التي تجنيها كل عام.