العقارب، تلك الكائنات السامة التي تثير الرعب بمجرد ظهورها، تتكاثر بأعداد هائلة في السودان، لدرجة أنها أصبحت مألوفة حتى للأطفال، يطاردونها ويتلهون بها. رغم أنه لا يكاد يمر يوم إلا ويموت فيه طفل بلدغة عقربة تفرغ سمومها في أجسادهم البضة، تحديداً في ولاية نهر النيل شمال العاصمة الخرطوم، والتي اشتهرت بأنواع عديدة من العقارب، فهي وبالمقابل تتهيأ اليوم إلى تصديرها للعالم!
أصبح كثير من السودانيين يمتهنون صيد العقارب لتهريبها إلى الخارج، خاصة بعد أن بدأ نشاط الصينيين في ذلك، سرًا، بالسودان
لم يعرف السودانيون قيمة العقارب كثروة قومية تضاهي معدن الذهب أحياناً، إلا حين تولت الصين المهمة، بصورة سرية في أول الأمر، قبل أن يهرع الناس في رحلة البحث عن الكنوز القاتلة.
850 نوعاً من العقارب في السودان
قبل نحو عامين، أحبطت جمارك مطار الخرطوم، محاولة تهريب 200 كيلوغرام من العقارب الميتة. وكشفت السلطات السودانية أن تلك الكميات من العقارب كانت في طريقها إلى إحدى الدول الآسيوية، للاستفادة من سمياتها في تصنيع بعض الأدوية، بينما يعتبر تهريبها مخالفة لقوانين الاستيراد والتصدير وقانون الحياة البرية السودانية، علماً بأن السودان يحتضن نحو 850 نوعاً من العقارب، ستة منها نادرة وتعيش فقط في السودان.
اقرأ/ي أيضًا: وفرة المعدن النفيس والفقر.. عن حيل تهريب الذهب السوداني
نشاط تهريب وتجارة العقارب شجع بطبيعة الحال عمليات صيدها، وأصبح صيدها مهنة معتادة للكثيرين، وذلك بعد أن زودت بعض الشركات الصينية العاملة في السودان، المواطنين بمصابيح إضاءة خاصة تكشف عن العقارب ذات الأجساد المشبعة بالذهب. وهو ما أثار الشكوك بأن الغرض من تصديرها ليس استخلاص سمومها من أجل تصنيع الأدوية، ولا هي فقط وليمة لأثرياء الصين كما يُشاع، وإنما لاحتوائها أسراراً أخرى، غالباً أعلى قيمة من كل ما يتم الترويج له، خاصة وأن بعض أنواع العقارب في شمال السودان تتغذى على الرمال المشبعة بحبيبات الذهب.
كوثر.. سيدة أعمال العقارب
ثمة امرأة سودانية تحولت بالفعل إلى سيدة أعمال ثرية بسبب تجارة العقارب. إنها كوثر السماني، والتي التقت بالصدفة في إحدى المطارات، برجل أعمال أقنعها بالعمل معه وتغيير وجهتها تماماً، إذ أوعز لها برغبته في شراء كميات كبيرة من العقارب، تمهيداً لتصديرها وجني الأرباح المليارية من وراء ذلك.
وعرض رجل الأعمال الصيني على كوثر 55 دولاراً مقابل كيلو العقارب الواحد. وقد أخذت السيدة السودانية ذلك الطلب على محمل الجد، وسعت إلى توظيف العديد من المنقبين عن الذهب لاصطياد العقارب، وأسست أيضاً أول مزرعة لتربية العقارب في السودان، وسجلت مشروعها في وزارة التجارة الخارجية والحياة البرية بالخرطوم، كما قامت بتصدير أربع شحنات إلى الصين تقدر بعشرة آلاف كيلو أو ما يعادل 300 ألف عقرب.
لكن كوثر السماني لم تهنأ بالتجارة الجديدة الرابحة، وثارت عليها ثائرة جمعيات حماية الحياة البرية، بجانب فرض رسوم عليها بمعدل خمسة آلاف جنيه سوداني على الكيلو الواحد، أي ما يعادل 600 دولار. كما أن الدولة أرادت أن تستحوذ على تلك التجارة فيما يبدو، ولذلك أوقفت عمليات التصدير، مع مخاوف حقيقية أيضاً بانقراض هذه الكائنات القاتلة والمفيدة أيضاً، في حال لم يتم تقنين عمليات الصيد العشوائي لها وممارسة الرقابة عليها.
أغلى من الذهب
من جانبه كشف والي ولاية نهر النيل، حاتم الوسيلة، عن ترتيبات تعكف الولاية على إنفاذها توطئة للشروع في تصدير العقارب إلى خارج السودان بواقع ثمانية آلاف دولار للغرام الواحد، منبهاً إلى أن غرام العقارب أغلى من غرام الذهب. وقال الوسيلة في تصريحات صحفية، إن أبناء محلية البحيرة جوار سد مروي، عكفوا خلال ورشة علمية على مناقشة قضية العقارب التي أرقت مواطني المحلية، وأوصت الورشة بالترتيب لتصديرها للاستفادة من السم الموجود فيها واستخدامه في العديد من الصناعات.
وقد أثارت تصريحات المسؤول السوداني جدلاً كبيراً، وتساؤلات على مواقع التواصل الاجتماعي، فهل يحاول بذلك الجنوح للإثارة أم الإيهام بعظمة العقارب، لتبرير فشله في توفير أمصال إنقاذ الأطفال من لدغاتها؟ هنا يجيب الكاتب الصحفي والناشط في العمل المدني، إبراهيم علي ساعد، فيقول لـ"ألترا صوت"، إن العقارب في ولاية نهر النيل تحديداً معروفة ومتواجدة في معظم مناطق الولاية، سواء كانت جبلية أو مجاورة للنيل، لكنها في السنوات الأخيرة ازدادت بصورة كبيرة، خاصة في محلية البحيرة.
وأضاف ساعد: "اتفق الجميع مختصين وباحثين ومواطنين، على أن بحيرة سد مروي والتعدين الأهلي، أحد أسباب زيادة العقارب بالمنطقة، وكذلك ظهور أنواع جديدة وقاتلة جداً، ما رفع نسبة الوفيات خاصة بين الأطفال بصورة قياسية"، مشيرًا إلى أن التوصيات التي خرجت بها الورشة التي أقامتها الولاية مؤخرًا؛ لم تر النور حتى الآن.
غياب المصل والرؤية
مصل الإنقاذ من موت العقارب غير متوفر في غالب مناطق السودان، إلى جانب تردي الخدمة الصحية. وحتى وإن توفر المصل، فهو يحتاج إلى ثلاجات تعمل بالطاقة الشمسية لغياب الكهرباء هناك، رغم أن بعض مناطق المناصير الذين يموت أطفالها بلدغات العقارب بصورة متكررة، يعيشون في ظلام دامس. وللمفارقة على مقربة منهم تهدر توربينات سد مروي شمال السودان!
المصل لوحده لا يكفي خاصة في غياب الخدمة الطبية المطلوبة لدعم الأجهزة الحيوية للجسم. كما أن فعالية المصل تختلف حسب فصيلة العقارب الموجودة بالمنطقة، وبالتالي فإن أفضل التدخلات هي الوقائية، نسبة إلى أن الكثير من الضحايا هم من الأطفال.
بحسب والي ولاية نهر النيل السودانية، فإنه ثمة مشروع لتصدير العقارب لخارج السودان بواقع ثمانية آلاف دولار للجرام الواحد!
أما حديث الوالي عن تصدير العقارب، فهو بالنسبة لإبراهيم ساعد "حديث سطحي يفتقر للعلمية والتخصصية"، وحتى إن كان ثمة مشروع مقترح، فالجهة الوحيدة المخول لها بالتصريح والتنوير هي المجلس القومي للصيدلة والسموم.
اقرأ/ي أيضًا:
حروب الأرض في السودان.. مناجم الذهب عنصر جديد في خريطة الصراعات الممتدة