تشاركوا الحالة القديمة مرةً أخرى، بما فيها من آلام معدةٍ ونوبات هلعٍ وكوابيس.. وشعور بالإهانة أيضًا.
لم يعرفوا تمامًا إن عادوا إلى الصدمة أم أن الصدمة هي من عاد إليهم، إلا أنهم يعرفون جيدًا أنّ النيران التي تدك منازل قطاع غزة وتفتك بأهله تشتعل في داخلهم، ومثلما يحدث هناك لا يجدون مطفئين ينقذونهم منها.
مأسورين بين أخبار الحرب وصورها وفيديوهاتها. يعرفونها كأنها تحدث أمامهم. كأنها تدور في غرف معيشتهم، على أرائكهم، فوق طاولات طعامهم.
هذا بالضبط ما يحدث لنا على مدار الساعة. هذا ما نعيشه في هذا الشهر المكثّف من آلام ثلاثة أرباع قرنٍ من التطهير العرقي والإبادة. والأسوأ حالًا فينا هم الذين لم تتوفر لديهم الفرصة للتعامل مع صدمة الحرب في سوريا، خصوصًا أنّ المنصات التي تمثّل أفضل وسيلة للاقتراب من صورة واقع القطاع تُؤجج في الجميع آلامًا ظنوا أنهم نسوها.
بمقدار ما نشعر بفداحة ما يخوضه أهل القطاع الآن نشعر بتجدّد الألم الذي عشناه في بلادنا (سويا أو العراق أو لبنان.. إلخ)، ونتأذى بالحجم نفسه تقريبًا من لامبالاة الأوروبيين الذين يتجاهلون معاناتنا باحترافٍ، ويحافظون على الروتين العادي لحياتهم المنظمّة والمستقرة، ولا تبدو صور موتنا أمامهم أكثر من شيء يُفسد متع أيامهم.
ممّا يلفت الانتباه أنّ هذه الحرب تجعلهم يُبْدون تعاطفًا أقلّ من ذي قبل معنا، حينما صرَّفوا قضايانا في سوق الأخلاق على أنها حالات إنسانية لا أكثر.
ضمن هذه الأجواء الكالحة، أكثر من يستبد بهم القلق غير المفهوم والغضب المتصاعد والذعر المفرط، في مزيجٍ شعوريّ مدمر، هم من عاشوا تجارب القصف المدفعية والطيران الحربيّ في سوريا، ولم يحصلوا حتى اللحظة على المساعدة النفسية المناسبة، وجاء عدم الترحيب الجديد، على خلفية تزايد العنصرية والإقصاء والإسكات والقمع، ليفاقم من عنف تلك المشاعر.
المستوى الآخر من الصدمة هو تلك التي يعاني منها الفلسطينيون، أي الصدمة المتوارثة عبر الأجيال. والغريب أنها لا تنتقل بينهم وحسب، بل تنمو وتكبر مع كل انتقال
كل ما أُريد إخفاءُ آثاره في ما يتعلق باستغلال الجنوب العالميّ، وترك اللاجئين يموتون في طريقهم إلى الغرب، في البحر الأبيض المتوسط أو في طريق البلقان.. ينكشف الآن بشكلٍ لا يقبل الشكّ: في حياتنا وموتنا، نحن عبء ثقيل مفروض على أصحاب الامتيازات البيض، الذين يعتقدون أنهم ينقذون العالم لمجرد قيامهم بإعادة تكرير الأكياس البلاستيكية، أو لقيادتهم السيارات الكهربائية.
أما الصدمة النفسية غير المعالجة فتبقى قابلة للانفجار طوال الوقت، ولا ينقصها أكثر من ضغطةٍ على الزناد، وفي هذا الوقت تغدو صور الأشلاء البشرية المحروقة، والمباني المهدّمة، وارتجافات الأطفال المذعورين، وصراخات الفجيعة لا تعرف التوقف.. هي ضغطة الزناد.
في كتابه العظيم "الجسد لا ينسى"، بيّن عالم الصدمات النفسية بيسل فان در كولك كيفية إعادة الصدمة تشكيل الأدمغة والأجسام معًا، وذلك حين يقوم الدماغ بتخزينها في الجسم فتعيش بانتظار إعادة تنشيطها. وهذا ما يحدث الآن للجميع، لاسيما من جاؤوا من سوريا.
المستوى الآخر من الصدمة هو تلك التي يعاني منها الفلسطينيون، أي الصدمة المتوارثة عبر الأجيال. والغريب أنها لا تنتقل بينهم وحسب، بل تنمو وتكبر مع كل نقلةٍ من جدّ وجدةٍ إلى أبّ وأمّ، ومنهما إلى البنات والأبناء، لأنّ لكل جيل نكبته الخاصة التي تؤكّد أنّ النكبات الفلسطينية واحدة، وأسوأ ما فيها أنها تتلخص في شعور هذه الأجيال جميعها أنّ أقوياء العالم ينظرون إلى الموت الفلسطيني على أنه نتيجة ثانوية لمشروع إمبراطوري عظيم.
ولد الشعب الفلسطيني في مناخ من الصدمة المستمر على مدى أجيال، وظل يشهد موجاتٍ متتالية من تخفيض القيمة والمحو، للفرد والجماعة، من قبل عدوه تارةً، ومن قبل الأنظمة العربية تارةً أخرى، وإذ كنا نفهم السلوك الأول فإننا نشعر بمرارةٍ لا تطاق في الحالة الثانية، لأنّ تلك الأنظمة استعملت القضية بأقذر الطرق الممكنة، ثم اتهمت أهلها بأنهم باعوا الأرض، أو أن منهم من وقّعوا السلام، كي تُبرّر التخلي عن هذا الشعب.
ومثله بالضبط حال الشعب السوري الذي ظلّ يُقمع بأدوات منظومةٍ أمنيةٍ مروعة، وحين ثار وقرّر تقرير مصيره قُوبل بأشنع أشكال العنف وأشدها سفالةً، حدَّ أنها وصلت إلى أنّ القتلة نظروا إلى حياة السوريين باحتقار، واستعملوا لتحقيق موت سهل وسريع أسلحةً رخيصة.
الآن في الغرب، خاصة في ألمانيا، لا يختبر الفلسطينيون والسوريون نسخةً جديدة من النكبة في البثّ المباشر لاغتيال قطاع غزة وحسب، بل يواجهون إنكار الجريمة من قبل مرتكبيه وأتباعهم، ويواجهون فوق هذا وذاك موتًا آخر هو موتهم المعنويّ في الخطاب العام، إذ لا تُرفض صحة قصتهم فحسب، بل تُرفض معها هوياتهم وثقافتهم وتاريخهم وتجربتهم النضالية، وبهذا تُشكّل الجريمة الجديدة طبقةً جديدة من الصدمة.