"قانون المصالحة الاقتصادية سيمر قبل شهر رمضان"، هكذا صرّح مستشار الرئيس التونسي قبل أيام، ليأتيه الرد الشارع من حملة "مانيش مسامح" (لن أسامح)، ليعود الجدل مرة أُخرى في تونس، حول مشروع القانون الأكثر إثارة للجدل، والذي قدّمه الباجي قايد السبسي منذ صيف 2015، والمتعلّق بتسوية ملفات رجال الأعمال والإداريين المتورطين في الفساد المالي خارج إطار العدالة الانتقالية.
وانطلق البرلمان التونسي، خلال هذا الأسبوع، في مناقشة المشروع الرئاسي للمرّة الثالثة، وذلك بعد تأجيلات طيلة سنتين، تحت ضغط أحزاب ومنظمات مدنية، تعتبر أن المشروع يكرّس الإفلات من العقاب ويبيّض الفساد والمفسدين. حيث بدأت حملة "مانيش مسامح"، وهي تجمع شبابي من مختلف الأيديولوجيات والحساسيات السياسية، في إعداد العدّة للحيلولة دون مرور مشروع القانون.
أحزاب ومنظمات مدنية تونسية تعتبر أن مشروع قانون المصالحة يكرس للإفلات من العقاب ويبيّض الفساد
وفي الوقت الذي تعيش فيه تونس احتقانًا اجتماعيًا عكسته الاحتجاجات الأخيرة في عديد المحافظات، وبالتزامن مع فشل زيارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد لمحافظة تطاوين، جنوبي تونس، التي تعرف احتجاجات واعتصامات منذ أسابيع، يزيد انطلاق مناقشة البرلمان مجددًا لقانون المصالحة من منسوب الاحتقان في البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: "مانيش مسامح" تعلن حالة الطوارئ الشعبية في تونس
ومن المنتظر أن تنظم الأحزاب والجمعيات المعارضة، تظاهرات رافضة للقانون، وهو ما سيضيّق الخناق على السلطة التي بقدر ضمانها للأغلبية البرلمانية لتمرير مشروعها، إلا أنها تخشى تصاعد الاحتجاجات وانفلاتها، بما يهدّد الاستقرار السياسي الهشّ بطبعه.
وفي هذا السياق، دعا حزب التيار الديمقراطي الممثل في البرلمان، إلى عصيان مدني رفضًا لمشروع القانون، فيما أكّد حزب حراك تونس الإرادة اتخاذه كافة "الأشكال القانونية" لإسقاط مشروع قانون المصالحة.
لماذا تُصر الرئاسة على طرح القانون
ويُطرح تساؤل حول تشبّث الرئاسة التونسية بتمرير قانون تأجل بشكل متواتر منذ سنتين للرفض الشعبي له، ليأتي الجواب من قبل رافضي المشروع بأن هذا التشبّث بمثابة "رد جميل لرجال الأعمال الفاسدين الذين موّلوا الحملة الانتخابية لحزب نداء تونس الحاكم". ولا ينظر المعارضون إلى مشروع القانون إلا على أنه تشجيع على الفساد، بينما تُؤكد الحكومة على أن مكافحة الفساد على رأس أولوياتها.
ويُستند في رفض المشروع على تعارضه مع قانون العدالة الانتقالية الذي أوكل لهيئة الحقيقة والكرامة المكلّفة، من بين ما كلفت، بمهمة معالجة ملفات الفساد المالي، في حين أن المشروع الرئاسي يفتك من هذه الهيئة مهامها دون موجب. كما ينصّ هذا المشروع على لجنة تتكوّن أغلبيتها من ممثّلي السلطة التنفيذية، لتسوية ملفات الفساد بين الدولة ورجال الأعمال، وبالتالي ستكون هذه اللجنة هي الخصم والحكم في آن واحد، نظرًا لمعطى انتساب أغلب رجال الأعمال المتورطين في ملفات فساد مالي لحزب نداء تونس الحاكم.
وترفض هيئة الحقيقة والكرامة بدورها هذا المشروع، مؤسسة رفضها على الاستشارة المقدّمة من لجنة البندقية، وهي لجنة قانونية دولية، والتي أكدت بأن المشروع الرئاسي لن يساهم في كشف حقيقة الفساد، ولن يصلح مؤسسات الدولة، ولن يحقق أهداف العدالة الانتقالية.
لم تعلن حركة النهضة، الضلع الثاني للائتلاف الحكومي، رفضها للمشروع حين تقديمه في صيف 2015، غير أن قياداتها أعلنت تحفظها عليه، وعليه علم السبسي بأن مشروعه بحاجة لدعم شريكه الإسلامي قبل المضي قدمًا لتمريره. وهو ما يبدو ما قام به السبسي ليدفع نحو طرحه من جديد لتمريره الآن قبل أشهر قليلة من الانتخابات البلدية.
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. العدالة بوصفها سؤال الثورة
ما الجديد هذه المرّة؟
كشفت قيادات من حزب نداء تونس الحاكم، عن إعداد رئاسة الجمهورية لنسخة منقحة لمشروعها، تستجيب لملاحظات لجنة البندقية، فيما تتناقل كواليس الغرف السياسية موافقة مبدئية لحركة النهضة على المشروع الجديد. وكشف موقع نواة الاستقصائي عن وثائق مسربة من قصر قرطاج، خطة رئاسة الجمهورية للترويج للمشروع في وسائل الإعلام وبين الفاعلين السياسيين والاقتصاديين، مُشيرًا إلى العزم على تمرير القانون وعدم التراجع على غرار المرتين السابقتين.
من جانبها، أعلنت الأحزاب المعارضة والمنظمات المدنية، وعلى رأسها حملة "مانيش مسامح"، رصّ الصفوف من جديد لمنع المصادقة على مشروع السبسي. وانضمّ الحزب الجمهوري، وهو حزب مشارك في الحكومة، لفريق الرافضين، وهو ما يكشف عن الحرج الذي يواجه السلطة في الأيام المقبلة.
يعد الإصرار على تمرير قانون المصالحة في ظل الوضع المشحون في تونس، بمثابة مغامرة غير محسوبة العواقب
ويراهن معارضو المشروع على إسقاطه بضغط الشارع، والحديث عن الشارع دائمًا ما يكون مربكًا لأي سلطة ولو تمتعت بأغلبية برلمانية مريحة، وذلك بخاصة في سياق انتقال ديمقراطي وأزمة اقتصادية واحتقان اجتماعي كالحال في تونس.
وعليه يبدو بأن الإصرار على تمرير القانون في ظلّ الوضع المشحون في البلاد، هو بمثابة مغامرة غير محسوبة العواقب، ليظلّ السؤال حول مدى مضي السلطة قدمًا للمصادقة عليه في تحدّي لطَيْف واسع من الشارع التونسي. ربما هي في النهاية معركة مؤجلة وقد حان ميعادها، حيث لم يقدر "التوافق السياسي" بين الأحزاب الكبرى على تجاوزها، فـ"الثورة دائما مستمرّة"، أو هكذا تؤكد القوى الشبابية في تونس.
اقرأ/ي أيضًا: