طوفان الأقصى.. هل من إمكانية لإعادة النظر في مسارات التطبيع في العالم العربي؟

منذ السابع من أكتوبر الماضي وعلى إثر عملية طوفان الأقصى، أكمل العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني شهرين كاملين، ليخلف وراءه كارثة إنسانية من جراء جرائم الحرب في قطاع غزة، وليثير تساؤلات تصدى لها الباحثون والمحللون في أكثر من اتجاه، أبرزها البناء الأخلاقي للنظام الدولي وخارطة تحيزاته، فضلًا عن السؤال الكبير حول دور الدول العربية "الشقيقة" للشعب الفلسطيني المنكوب في غزة والضفة الغربية.

ولئن كانت غالبية تلك المتغيرات ليست بالجديدة -إلا بمعيار الكمّ- في معادلة العدوان الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، لاسيما في غزة التي أصبحت الحرب عليها، منذ 2008، تجري كأنها "جولات"، إلا أن هنالك متغيرًا جديدًا في هذه "الجولة" من الحرب على غزة، هو كثافة الاحتجاج الشعبي الرافض للجرائم الإسرائيلية الذي ينتظم، تقريبًا، في أغلب دول العالم [1]. سنركز في هذه المداخلة على تلك الاحتجاجات التي تجري بالعالم العربي، وانعكست رسميًا في أشكال عدة أبرزها إغلاق السفارات ومكاتب الاتصال الإسرائيلية في عدد من الدول العربية واستدعاء سفرائها من إسرائيل، فضلًا عن حملات المقاطعة.

تتناول هذه المقالة بالتحليل الحركة الاحتجاجية الشعبية التي جاءت كرد على العدوان الإسرائيلي على غزة، في إثر عملية طوفان الأقصى، وذلك بقراءة "عملية الطوفان" كإمكانية للدفع نحو مراجعة اتجاهات التطبيع مع إسرائيل في دول العالم العربي، لاسيما في الدول المطبّعة في عام 2020. ونركّز تحديدًا في حركات الرفض والاحتجاج الشعبي الواسعة التي اندلعت بعدد من دول العالم العربي، هادفين من وراء ذلك إلى تحليل إمكانيات البناء على تلك الحركات والدفع بها من أجل تجاوز حالة الغضب العفوي لحالة من التنظيم و"الحركة"، وصولًا إلى بلورة مواقف رسمية. وذلك بغية التأثير: أولًا على اعتبارات دولة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة في مسار استكمال خوض الحرب على غزة على النحو المُعلن من قبيل "إقرار نظام أمني جديد بغزة" و"تشكيل شرق أوسط جديد"، ومن ثم إعادة التفكير في خيارات التطبيع التي أخذتها مجموعة من دول العالم العربي بالتركيز على دول بعينها هي: مصر، والأردن، والمغرب، والسودان. سنعمل على تحليل المواقف الرسمية لهذه الدول، وقراءة مواقفها في ضوء موجة الاحتجاجات الشعبية -في العالم العربي تحديدًا- الرافضة لجرائم العدوان الإسرائيلي على غزة والمناهضة للتطبيع.

ومناط تركيزنا على هذه الحالات هو أنها: أولًا شهدت مسارًا لتطبيع العلاقة مع إسرائيل، بالإضافة إلى أن أغلبها يشهد حركة شبه منتظمة من الاحتجاج بحسب ما تنقله وسائط الإعلام (أقله في بداية العدوان). فضلًا عن كونها شهدت تفاعلًا بين الموقف الرسمي وحضور/غياب الحراك الشعبي الرافض للتطبيع والعدوان الاسرائيلي على غزة. ثانيًا، إن هذه الحالات يمكن أن تكون بتنوعها كاشفة في مسعى فهمنا لمسار الحراك الشعبي المناهض للتطبيع؛ إذ سنركز على حالتين من الدول التي تربطها اتفاقيات تاريخية مع الاحتلال الإسرائيلي كمصر (1978) والأردن (1994)، وحالتي المغرب والسودان بوصفها حالات حديثة من التطبيع جرت في العام 2020.

فلسطين في قلب المعادلة

تأتي هذه الهبّات الشعبية بعد حوالي خمسة عقود، منذ آخر حرب في 1973، اتسمت بتوظيف القضية الفلسطينية بواسطة أنظمة الحكم في الدول العربية في معادلات السلطوية والقمع الداخلي، وبعد عقد كامل من الإحباط تجاه المواقف الرسمية لأنظمة ما بعد الربيع العربي، "وشعرت مجموعات فلسطينية كبيرة بخيبة أمل" في إمكانية تأثير الربيع العربي في تغيير مسار القضية الفلسطينية عبر مؤسسة الدولة[2]، على الأقل من قِبَل الدول المحيطة بفلسطين كمصر وسوريا. أبعد من ذلك، انخرطت مجموعة من الدول العربية بعد الربيع العربي (الإمارات، البحرين، السودان، والمغرب) في موجة جديدة من تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ليعمق ذلك حالة الخذلان تلك. خرجت الشعوب في أغلب دول العالم العربي ترفض غاضبة جرائم الاحتلال في غزة على إثر عملية طوفان الأقصى، في صور تذكّر بالحشود التي ملأت الشوارع إبان الثورات الأخيرة. ليعكس هذا الرفض جانبًا آخر من صورة هذا المشهد القاتم، وأبعد من ذلك لينسج خيوط التداخل في مواجهة الكيان الإسرائيلي.

إن أشكال التداخل بين الوطني وعبر الوطني في سياق فلسطين وحراكها النضالي بعد الربيع العربي يمكن تتبعه في أكثر من مستوى؛ سواء كان في حضور القضية الفلسطينية سلبًا وإيجابًا في خطاب ومواقف أنظمة الدول العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي، أو حضورها في خطاب هذه الثورات، سواء كان في موجات الحراك التي اندلعت في فلسطين بعد عام 2011 وخطاب هذا الحراك الذي تفاعل مع الربيع العربي[3]. وفي ضوء عملية طوفان الأقصى وسياق الحرب الحالية على غزة، تعكس الهبّات الشعبية الحالية في أغلب البلدان العربية ذلك التداخل، ولكن في موقع آخر هو الدول العربية، وبشكل لافت في بعض من تلك التي دخلت أنظمة الحكم فيها في عمليات تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، كالأردن والمغرب، بما يعكس فوقية مسارات التطبيع بهذه البلاد.

لطالما طُرح سؤال فلسطين في سياق ثورات الربيع العربي مرارًا، وقد مضت بعض المقاربات الباكرة إلى التأني في الحكم على هذه الثورات من ناحية انعكاس تغيير أنظمة الحكم في بلدانها على مناصرة الشعب الفلسطيني ومقاومة إسرائيل، الأمر الذي اعتُبر بحسب تلك المقاربات، أن مدخله المنطقي والصحيح "هو أن هذه الثورات ينبغي أن تنتصر أساسًا لتصوّرها الجديد عن ذاتها، أيْ عن كرامة دولها ومواطنيها"[4]. تنطوي هذه المقاربة على جانب إشكالي، إذ كونها تنطلق من فكرة الدولة الوطنية كمعطى تقرأ في ضوءه موقع فلسطين ضمن ثورات الربيع العربي التي تنتمي إلى "زمن الثورات الوطنية".  ما نحاول طرحه في هذه المداخلة هو المحاجّة على: إن التضامن عبر الوطني يحتاج إلى روافع محلية ووطنية، ولكن بذات القدر يجب الانتباه إلى ضرورة فهم شروط الدولة الوطنية ليس كسجن وإنما كاستراتيجية في مسعى تجاوزها بما يتيح مواجهة التحديات بمنظور كلي. وذلك من خلال قراءة بعض الحالات من الاحتجاجات الشعبية التي خرجت في العالم العربي لرفض الجرائم بحق الشعب الفلسطيني ومناهضة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.

أولاً: دول الاتفاق التاريخي

1. مصر

بالنسبة لمصر، فإن خلخلة مسار التطبيع لا يبدو سهل المنال على المستوى الرسمي لرسوخ علاقات الدولة المصرية مع الكيان الإسرائيلي الممتدة لما يقارب الخمسة عقود منذ اتفاقية كامب ديفيد 1978. بالإضافة إلى تقدم نظام السيسي خطوات في التنسيق الأمني والعسكري مع إسرائيل[5]. ولم تخرج مواقف النظام المصري طيلة الحروب السابقة على غزة عن المعهود عنه من الوساطة، إلا أن الحرب الحالية رفعت مستوى مناورة النظام المصري بمسألة العامل الشعبي في تحريك مسألة العلاقة مع إسرائيل: أولًا للضغط على حلفائه من الدول الغربية وإسرائيل بعد أن رشح في السطح خيار تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة نحو الأراضي المصرية[6]، وثانيًا لاحتواء الشارع الذي أدرك النظام غليانه. وبلغ ذلك حدًاّ دفع السيسي إلى الدعوة إلى مظاهرات في ساحات محددة بعدد من المدن، في محاولة لاستباق الهبّة الشعبية بغية احتوائها وتوظيفها في تناقضات المشهد السياسي الداخلي فيما اصطلح عليه بـ "تفويض حماية الأمن القومي"، في محاولة لاستعادة التفويض الذي دعا له في 2013 عندما كان وزيرًا للدفاع[7]. ولكن الأمر لم يفت على جموع المتظاهرين الذين التقى في خروجهم كلا الأمرين: تعطشهم للتعبير في الفضاءات العامة وممارسة الاحتجاج، وغضبهم من الجرائم الإسرائيلية في غزة، وهو ما انعكس في شعارات الاحتجاج: "مظاهرتنا بجد.. مش تفويض لحد" و"تفويض إيه يا عم.. فلسطين أهم".

إن الأشواق التي لمسناها في مشاهد تدفق جموع المصريين التواقة لمعانقة ميدان التحرير من جديد[8]، بعد أعوام من اعتباره أرضًا "ممنوعة من الاقتراب والتصوير" بواسطة السلطوية العسكرية الخانقة، هذه الأشواق وجدت متنفسها في حراك التضامن مع مأساة غزة الحالية. وكان هذا التضامن ملتحمًا مع الشؤون المحلية، وهو ما انعكس في خطاب الهبة الشعبية وشعاراتها: "عيش، حرية، فلسطين عربية".

إن الحركة الاجتماعية الملتفة حول قضية مناهضة التطبيع في مصر أمام تحدي تطوير خطابها بحيث تحافظ على زخم القضية في الخطاب الوطني شعبيًا، الأمر الذي يمكن أن يحرز اختراقًا في ركود النضال الشعبي ضد السلطوية بفتح القضية وربطها بالقضايا المحلية في مواجهة القمع، وإثارة النقاش العام حول كافة قضايا حقوق الإنسان، بالإضافة إلى تحفيز النقاش، في سياق هذا الاحتجاج الموؤود، حول مسألة تهجير مجموعة من أهالي سيناء بوصفها قضية حقوقية وطنية وقضية تصب في مصلحة الاحتلال الإسرائيلي[9]، وقضايا التضييق على العمل الإنساني الإغاثي للمنظمات الخيرية المصرية الذي يأتي في سياق التنسيق مع إسرائيل في إدارة المعابر، الأمر الذي يثير سؤال السيادة ومساءلة شرعية النظام بالحفاظ عليها، خصوصًا في ظل خطاب التسليح وبناء قدرات مصر العسكرية التي ينتجها النظام المصري[10]. كل تلك القضايا هي قضايا مطروحة لدى قوى المعارضة المصرية عند نقدها للنظام، ولكنها تنتظر من الحركة المناهضة للتطبيع دمج قضية التضامن مع غزة في نسيجها بهدف الدفع إلى مواقف تتجاوز الموقف المصري الكلاسيكي تجاه غزة القائم في أعلى سقوفه على وساطة الهدنة.

2. الأردن

يشهد الأردن إحدى أقوى الحركات الاحتجاجية في العالم العربي رفضًا للعدوان الإسرائيلي على غزة، وهي حركة -على خلاف مصر ودول عربية كثيرة- لم تخب بعد فورة الغضب الشعبي العفوي في الأسابيع الأولى. فالمباركة الشعبية الواسعة لعملية طوفان الأقصى التي حملتها وسائط الإعلام منذ اليوم الأول، تكثفت، مع تصاعد وتيرة جرائم الحرب، ليحمل خطابها الدعم اللامتناهي للمقاومة والمطالبة بفتح الحدود بالإضافة إلى طرد السفيرة الإسرائيلية من الأردن وإلغاء التطبيع[11]، الأمر الذي أفرز تحركات رسمية ديبلوماسية وإنسانية. ويثار هنا سؤال حول حدود الخطوات الديبلوماسية وإمكانية البناء عليها خطابيًا بواسطة الحركة الاحتجاجية وصولًا إلى موقف أقوى في العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي، على الأقل من حيث تأثيره في سياق هذه الحرب على غزة. وإلى حد ما يمكن قراءة الاحتجاجات الشعبية كعامل رئيس في تصعيد الموقف الرسمي الأردني، مع استصحاب إدراك نظام الحكم لخطر تهجير الفلسطينيين الذي بدأ يرشح كخيار، وموقع الأردن ضمن هذا الخيار كوجهة محتملة لقطاع عريض من الفلسطينيين.

بدأ الموقف الأردني الرسمي منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى، وذلك ببيان خجول من وزارة الخارجية يحذر من "توسع التصعيد"[12]، ولم يختلف عنه كثيرًا خطاب العاهل الأردني الذي ألقاه بمجلس النواب[13]. مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية التي عملت منذ اندلاعها على تشكيل موقف واضح طالب بقطع العلاقات مع إسرائيل، بدأت المواقف الرسمية تتصاعد: بدءًا بالقمة العربية الأمريكية لوزراء الخارجية التي رفض فيها وزير الخارجية الأردني بوضوح خيار تهجير الفلسطينيين وطالب بوقف الحرب[14]، ومن ثم إلغاء القمة الرباعية التي كان مقررًا أن تجمع العاهل الأردني مع الرؤساء: الأمريكي، المصري، والفلسطيني في يوم 18 تشرين الأول/أكتوبر على خلفية مجزرة المعمداني[15]، وصولًا إلى استدعاء سفير الأردن بإسرائيل وإبلاغها بعدم إعادة سفيرها إلى عمّان[16]. فضلًا عن خطوات كإنزال المساعدات الإنسانية بواسطة سلاح الجو، الأمر الذي جرى بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية[17]، وهو مفهوم إذا انتبهنا إلى أن هذا الإنزال ليس إنزالًا لقوات عسكرية ولا يتعدى أطنانًا محدودة من المساعدات الطبية، بالإضافة إلى قِدَم علاقات التطبيع السياسي والديبلوماسي بين الأردن وإسرائيل منذ عام 1994 في معاهدة وادي عربة[18]. ولا ينبغي أن نغفل قراءة كافة هذه الخطوات التصعيدية ضمن سقفها المحدود بمحاولة النظام لحفظ التوازنات الداخلية أمام التركيبة الديموغرافية ذات الوجود الفلسطيني المعتبر، فضلًا عن مناوراته لحفظ التوازن خطابيًا دون اتخاذ أي خطوات جادة تخلخل هذه العلاقات القديمة.

وعلى ذكر قِدَم مسار التطبيع بواسطة نظام الحكم، فإن الأردن، على الصعيد الشعبي أيضًا، به حركة منظمة وقديمة نسبيًا في مناهضة التطبيع[19]. وإذا كان تعبير هذه الحركة عن نفسها قد انحسر في شكل حركة المقاطعة التي تضم أكثر من جسم نضالي أبرزها (تجمع اتحرك والأردن يقاطع BDS)، مع الاحتجاجات العفوية المصاحبة لكل جولة حرب على غزة. جاءت الهبّة الشعبية الحالية من رفض العدوان الإسرائيلي لتعطي حركة المقاطعة زخمًا ذو حمولة سياسية أوضح، سواء كان في الاستراتيجيات أو في التوجه. ويكمن التحدي في سياق هذه الحرب، تطوير استراتيجيات المقاومة الشعبية بحيث تتجاوز سقف مناورات النظام والالتفاف عليها بغية دفعه نحو تصعيدها. وذلك عبر فتح التداول، في ظل هذا التعدد في الأجسام، حول سبل تنظيم حركة المناهضة وإخراجها من دائرة العفوية الموسمية إلى الاستمرارية. ولا يقل عن مسألة التنظيم تطوير خطاب ذو مطالب سقفها أعلى، ولا بأس إن لم تفرز في نهاية الأمر فقط سوى تلويح النظام بقطع علاقاته مع إسرائيل.

ثانيًا: الدول المتأخرة في التطبيع

1. المغرب

شأنها شأن أغلب الدول العربية، فإن الموقف الرسمي في المغرب لم يشذ في البداية عن الإعراب المبهم عن "القلق العميق من اندلاع الأعمال العسكرية"[20]، ولم يسع المغرب إلا "التعبير عن أسفه وخيبة أمله من تقاعس المجتمع الدولي"[21]. ولكن الحركة الاحتجاجية تصاعدت في ضغطها الشعبي بحيث أثمرت إغلاق مكتب الاتصال الحكومي في الرباط منذ الأسبوع الثاني للعدوان[22]، هذا إذا استثنينا التحركات الديبلوماسية والإنسانية للنظام.   

إلى جانب الأردن واليمن والعراق، تشهد المدن المغربية أحد أكبر الاحتجاجات الداعمة لغزة في الدول العربية. وما يميز الحراك الشعبي في المغرب هو تصاعده وقوة تنظيمه، حيث تعم هذه المظاهرات مجموعة كبيرة من المدن والبلدات المغربية[23]. بالإضافة إلى أن الجسم الذي يتصدر تنظيم هذا الحراك، وهو "الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع" هو من التنظيم بحيث تتواجد فروعه في أغلب المدن المغربية، وخطابه لديه حساسية عالية تجاه الوجود اليهودي ضمن الكيان الوطني المغربي ويندر فيه خطاب "خيبر يا يهود" في مقابل الجرائم "الصهيونية". واستطاع ذلك الجسم أن يرفع مستوى الغضب الشعبي لفعل متواصل عبر التنظيم والمطالب التي أفرزت مكاسب مؤقتة، وتضغط الجبهة باتجاه إلغاء التطبيع نهائيًا[24].

الجدير بالذكر، أن هذه الهبّة الشعبية تعم المغرب في ظل مناخ تنبئ عنه مقاييس الرأي العام بتدهور مستوى التضامن مع القضية الفلسطينية لدى المغاربة[25]. لينقلب مع هذه الهبّة المنحنى البياني لقياسات الرأي العام، مثيرًا تساؤلات عدة بشأن قوة الحدث الحالي وما تحمله فظائع العدوان الإسرائيلي، هذه المرة، لخطر استئصال الشعب الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية في غزة. وإزاء التلقي والتجاوب الشعبي القوي في المغرب، فإن الخصائص الديموغرافية في توزيع بيانات الرأي العام تجاه القضية الفلسطينية لرصد حركتها عبر الأجيال تمثل بعدًا آخر تطرحه الحالة المغربية، خصوصًا في ظل هذا الحضور الكثيف للفئات العمرية الصغيرة في المظاهرات.

إن شعار "فلسطين أمانة.. والتطبيع خيانة" الذي ترفعه الجبهة المغربية لمناهضة التطبيع، وتردده الجماهير المغربية في مواكبها على امتداد المغرب، هذا الشعار يمكن أن يجد عضده في تجذير خطاب الخطر المحلي للاتفاق الثلاثي المغربي-الأمريكي-الإسرائيلي للتطبيع، وذلك بمخاطبة قضاياه وبنوده داخل الأفق الوطني، كقضية الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء على سبيل المثال، والتي تمثل المفصل المركزي في اتفاق التطبيع الثلاثي[26]. تمتلك الهبّة الحالية -إذا ما توفرت على قدر مناسب من التنظيم والخطاب- في المغرب الرصيد الكافي، أخلاقيًا وسياسيًا، للانطلاق من تفكيك خطاب السيادة الذي تنتجه الدولة المغربية ومناقشة تناقضاته.

إن أهم قنطرة يمر عليها تجذير رفض خيانة الشعب الفلسطيني ورفض التطبيع، هي عملية تعبئة الحركة الاجتماعية بخطورة المقايضة بالقضايا الوطنية، كقضية الصحراء مقابل التطبيع مع إسرائيل تحت الابتزاز الأمريكي. وذلك لأن حلها في الأساس مفتاحه قضايا صيرورة بناء الدولة وعلاقات التجاور مع الدول المحيطة، وليس الاستقواء بمحاور الهيمنة، الذي لا يفضي إلّا لمزيد من شرعنة قمع الدولة لجماعات من مواطنيها. إن تجسير الشعار أعلاه بالهموم المحلية التي يثيرها التطبيع في المغرب لهو ما ينتظر مراكز إنتاج الممارسة والخطاب في الحركة الاجتماعية الحالية في قضية التضامن الفلسطيني ورفض العدوان الجاري على غزة. بالإضافة إلى ذلك فإن حركة المقاطعة، وإن كانت في مجملها لا تغني عن التحرك السياسي، إلا إنها هي البعد الآخر الذي يمكنه تجذير اتجاهات مناهضة التطبيع وترجمتها في السلوك الاقتصادي اليومي، خصوصًا في ظل شكوى قطاع الاستثمارات الإسرائيلية الصغيرة من تأثيرات الحرب على أعمالهم[27].

2. السودان

اقتصر الأمر في المواقف الرسمية السودانية على البيان اليتيم الذي أصدرته وزارة الخارجية في اليوم الأول من العملية، والذي لم يخرج عن المألوف والمكرر في المواقف الرسمية من "الإدانة وتجديد الدعم للحقوق المشروعة"[28]. وليس متوقعًا من النظام أكثر من ذلك، باعتبار أن أجنحته العسكرية المقتتلة حاليًا هي التي قادت، بمشاركة الشق المدني حينها، انخراط السودان في عملية التطبيع، أواخر العام 2020. حينها طرح رئيس الوزراء عبد الله حمدوك التماسًا خجولًا يرفض ربط تحسين السودان علاقاته مع أمريكا بمسار التطبيع[29]، وبالرغم من أن هذا الموقف لم يكن مبدئيًا تجاه مسألة التطبيع وإنما ارتبط بنطاق تفويض الحكومة حينها، إلا أنه -إذا اكتُرث له- كان يمكن أن يخلق مساحة للمناورة في العلاقة مع أمريكا.

وفي سياق الحرب السودانية الجارية، ليس متوقعًا صدور موقف رسمي أقوى، خصوصًا في ظل رعاية الولايات المتحدة، التي ترمي بثقلها في الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة، لمحادثات السلام المستأنفة مؤخرًا بمنبر جدة بين الجيش وقوات الدعم السريع، اللّذان تبارى قادتهما في فتح قنوات منفصلة للتطبيع مع الحكومة الإسرائيلية[30].

في مستوى آخر، لم تشهد البلاد خروجًا شعبيًا يُذكر، وهذا الأمر مفهوم في بلاد شهدت انقسامًا شعبيًا وسياسيًا حول مسألة التطبيع منذ بروزها إلى المجال السياسي السوداني[31]. وأهم من ذلك، أنها (البلاد) تشهد حربًا وأزمات إنسانية داخلية تفرض على الناس انشغالًا كاملًا بالبلايا الداخلية، وهو انشغال لم تسلم منه حتى القوى الشعبية المنظمة المناهضة للتطبيع. إذ تألفت الجبهة الشعبية لمقاومة التطبيع من طيف واسع من الحركات والأحزاب السياسية، وشملت حتى كتلًا في الائتلاف الحاكم حينها والذي مرر مشروع التطبيع. بالرغم من ذلك إلا أن الفصيل الذي ظل نشطًا في تنظيم الاحتجاجات منذ تشكيل الجبهة، تمثله التيارات الإسلامية والوطنية المحافظة، وأغلب هذه التيارات مشغولة في الظروف الحالية بالحملة الإعلامية لمساندة الجيش في الحرب ضد الدعم السريع.

بناء على التحليل السابق، تطرح الحالة السودانية –في ضمور حراكها الشعبي مقارنة بالموجات السابقة من الحروب على غزة وبما يجري من حراك عالمي وعربي- تحديًا في مقاربة الغضب الشعبي الداعم لغزة عبر تجذيره محليًا في مناهضة التطبيع؛ إذ أن الحركة الاجتماعية المنوطة بمناهضة التطبيع يهددها الانكفاء والمقاربة الجزئية. وعلى المستوى الإيجابي، يمكننا استخلاص درسٍ في الضغط باتجاه بلورة موقف رسمي إزاء مسألة التطبيع مع إسرائيل، وهو الدرس المتعلق بضرورة فصل التطبيع عن مسار تحسين العلاقة مع الولايات المتحدة.

آفاق

بناء على استقراء الحالات السابقة من التحركات التي طالت مسار تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وقراءتها في ضوء متغير الحراك الشعبي للجماهير العربية، سنحاول فيما يلي مناقشة بعض القضايا المتعلقة بتطوير الحراك الشعبي الحالي الرافض لجرائم إسرائيل في غزة وللتطبيع معها.

أولًا: هنالك عامل يتعلق بطبيعة الحكومة الإسرائيلية الحالية يعتبر ذا قيمة تعبوية في رصيد الحركة الاجتماعية ضد التطبيع بالبناء على التضامن مع "نكبة" غزة الجارية، إذ تعتبر الحكومة الحالية الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل[32]. وتشكلت الحكومة من ائتلاف جمع فيه نتنياهو اليمين العلماني، مع اليمين المتطرف المتمثل في "الصهيونية الدينية"[33]. يختزن هذا العامل طاقة تعبوية في مسعى تطوير خطاب يهدف لمراجعة المواقف الرسمية للدول العربية ولاسيما تلك الملتحقة بملف التطبيع بعد الربيع العربي، استجابة للحراك الشعبي الذي انتظم في الشوارع بهذه الدول. هذا الحراك يمكن للحكومات البناء عليه باتجاه موقف أكثر استقلالية ومناورة تجاه الولايات المتحدة التي ترفع كرت إسرائيل كشرط وجواز عبور إلى تحسين العلاقة الثنائية معها.

ثانيًا: إن تسابق أنظمة الحكم في العالم العربي نحو تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة لهو أمر مفهوم في ظل النظام العالمي أحادي القطب، تجلس واشنطن على قمته. ولكن من غير المفهوم إغفال هذه الدول لأوراق عديدة (أهمها اعتبارات الموقع الاستراتيجي)، التي يمكن أن تناور بها في "سباق" حيازة الموقع الذي يناسب وزنها في الجلوس إزاء الولايات المتحدة وحساباتها في الشرق الأوسط التي تمثل العلاقة مع إسرائيل من أهمها.

وفي السياق الحالي فإن ضرورة فصل العلاقة مع الولايات المتحدة عن مسار التطبيع مع إسرائيل، يجب أن يمثل أهم أجندة أي تحرك رسمي لأنظمة الدول التي دفعها للدخول مسار التطبيع (كاملًا وغير كامل، علنيًا وبشكل سري) الضغط لتحسين العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة. والرهان هنا على تطوير الضغط الشعبي عبر التفكير في أشكال التنظيم واستراتيجيات الاحتجاج المتعددة، والتشبيك العابر للوطني وبلورة الخطاب بمطالب واضحة تحوي خطوات عملية (يمكن تطويرها من خطاب الاحتجاجات الوطنية في الحالات المذكورة) بحيث يدفع الأنظمة إلى اتخاذ مواقف موحدة وعملية وجريئة ترمي إلى التأثير على مجريات هذه الحرب.

إن ذلك الفصل المنشود رسميًا ينبغي أن يقابله، على المستوى الشعبي، ربطٌ واضح للولايات المتحدة بما تقوم به إسرائيل من عدوان على غزة، وهذه مهمة خطاب الحركة الاحتجاجية وأهدافها التي تدينها. توجهت بالفعل بعض المظاهرات ورابطت أمام السفارات الأمريكية كما في المغرب والأردن، وليس من المنطقي أن تُستثنى الولايات المتحدة من الرفض الشعبي المقاوم لإسرائيل وهي تقدم لها هذا الإسناد العسكري غير المسبوق. على ذات النحو الذي أفرز طوفان الأقصى كعملية عسكرية طوفانًا آخر على المستوى الشعبي، يجب استلهام دعوات بعض أركان المقاومة المسلحة لاعتبار المصالح الأمريكية في المنطقة أهدافًا لها، وترجمتها إلى مستوى النضال المدني الاحتجاجي الذي يهدف إلى الضغط الشعبي على أنظمة الحكم التي ترعى مصالحها.

في سياق التنافس المحموم بين القوى العظمى الذي يشهده الشرق الأوسط، فإن خيارات الولايات المتحدة والدول الأوروبية تجعلها مضطرة للأخذ بعين الاعتبار مواقف الحكومات العربية إذا ما خرجت جدية وموحدة، وليس التاريخ الذي خبر هذه الجدية ببعيد فيما عُرف "بأزمة النفط" بعد حرب 1973. إن زيارات القادة الأمريكان والأوروبيين المكوكية لدول المنطقة على ضوء طوفان الأقصى لا تنم إلا عن قلق من المواقف الرسمية العربية التي من شأنها التأثير على الرهانات والخطط الإسرائيلية-الأمريكية في هذا العدوان، وبالإمكان الدفع بهذا القلق، خصوصًا وهو يحظى بسند شعبي غير مسبوق حول القضية الفلسطينية.

ثالثًا: لا يجب أن نغفل هنا أن دولة الاحتلال لا تبالي في هذا الظرف برصيد العلاقات المدرجة في سجلها من الدول العربية المطبّعة، آخر هموم إسرائيل في خضم هذه الحرب هو أن تجري مفاضلة بين "تصفية حماس" الذي تزكيه أحزاب اليمين الاسرائيلي ويلوح توقيته المناسب بحسبهم، وبين الحرص على صيانة وتعهد العلاقات التي تم تطويرها في مسار التطبيع[34]. ولكن فإن المعادلة لا تكتمل إلا باستحضار متغير قوة المقاومة الذي ما يفتأ يربك حسابات إسرائيل عسكريًا، بالإضافة إلى الضغط الشعبي الداعم للشعب الفلسطيني عالميًا وعربيًا. يمثل هذا الضغط ضرورة نضالية في هذه المرحلة، وهي ضرورة تتجاوز القضية الفلسطينية كقضية وطنية نحو آفاق تحرر عبر-وطني للفكاك من حالة الإحباط الجماعي والركود النضالي التي تمخضت عنها الثورات العربية، فكاكٌ يضع نصب عينيه مساعي إسرائيل بوصفها دولة استعمارية يمثل التوسع شرطها الضروري، ومساعي حلفاءها العرب من الأنظمة السلطوية في قلب المراجعة النقدية حول مآلات الثورات التي انطلقت في عام 2011. 

أخيرًا، وقبل الانزلاق إلى التفكير بمنطق المؤامرة، فإننا هنا فقط نولي أهمية لتطوير هذا الحراك باتجاه تعميق الموقف النضالي في المنطقة نحو استعادة زمام الثورات العربية، وذلك عبر وضع قضية فلسطين ضمن أجندتها. وهذا الأمر يستدعي تثوير خطاب التضامن مع القضية خارج فلسطين بالتركيز على مساعي إسرائيل وحلفاؤها في الهيمنة على دول الإقليم، وفي تقويض مسارات الانتقال الديموقراطي في البلاد التي شهدت ثورات شعبية، ومن نافل القول إن هذه البلاد متفاوتة من حيث تجذر هذه المساعي، نسبة لاختلاف طبيعة القضايا التي يقترحها كل سياق ويصبغ ضلوع إسرائيل فيها بصبغة محلية وطنية ضيقة تغبّش الرؤية الكلية لحركة الهيمنة الإقليمية لإسرائيل. إن كشف أشكال التغوّل الاسرائيلي في الأجندة الوطنية عبر ربطه بالجرائم الجارية، لهي المهمة المركبة التي تنتظر بلورتها في خطاب الهبّة الشعبية للتضامن مع الشعب الفلسطيني ومناهضة التطبيع الهادرة في شوارع العديد من البلاد العربية.

لا بد أن يلتقي النضال ضد نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، في النهاية، مع النضال الديمقراطي في المنطقة، وفي كل مكان في هذا العالم

لا يقدح هذا التعاطي المنفتح على الهموم المحلية، برأينا، في أخلاقية التضامن مع الشعب الفلسطيني ومبدئيته، إذ "لا بد أن يلتقي النضال ضد نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، في النهاية، مع النضال الديمقراطي في المنطقة، وفي كل مكان في هذا العالم."[35]. وهو تعاطي أبعد من أن يرتب قضية الدم الفلسطيني المراق في غزة والضفة –كقضية مقدسة في ذاتها- في مرتبة التوظيف البراغماتي في الهموم المحلية، وإنما يحاول فقط إجالة النظر، بمنظور كلّي، نحو النفاذ إلى التناقضات التي من شأنها مخاطبة التحدي المشترك (إسرائيل)، واستثمار كافة المساحات والأدوات المتاحة خارج مجال المواجهة المباشرة لمقارعته بأدوات سياسية، تؤدي في المحصلة إلى إسناد العمليات الجارية في مقاومته عسكريًا من داخل فلسطين.

اقرأ/ي أيضًا:

تطبيع وانقلابات وعنصرية.. عن التقاطعات التي لم يعد يمكن إنكارها

غزة والوقاحة في تطبيع العدوان والموت!