احتل عباس النوري كممثل مساحة كبيرة في وجدان السوريين، سواء لناحية اختياره للشخصيات الشامية التي عمل على تجسيدها مثل شخصية محمود في "أيام شامية" وأبوعصام في "باب الحارة"، أو لناحية الصدق الفني الذي تميز به في أدائه للشخصيات التي وقع عليه تقديمها.
تنطوي أفكار عباس النوري عن التجلي الطائفي في سوريا على سذاجة منقطعة النظير
في حواره الأخير في برنامج "المختار" الذي يعده ويقدمه الإعلامي باسل محرز عبر إذاعة "المدينة إف إم"، نعثر على عباس نوري آخر مأخوذًا إلى حد كبير بلعب دور المصلح الفكري الذي أناط نفسه بمهام رسولية، متأثرًا على ما يبدو بالقول الذي ألقاه على مسامعنا ذات مرة، وفي البرنامج نفسه، الفنان زهير رمضان "الفنانون أنصاف آلهة"، ثم لم نلبث أن عثرنا عليه ناقدًا لا يشق له غبار، فما من قضية إلا وأبدى فيها الرجل، والحق يقال، رأيًا مختلفًا أو جيدًا إلى حد ما، لكن عباس سرعان ما كان يخذلنا بتحويله للنقد الذي يقدمه إلى ما يشبه الشكوى من هذا المسؤول أو ذلك، دون أن يجرؤ على رد هذا الخراب المعمم الذي يصدع رؤوسنا به إلى بنية النظام الأسدي الأب الروحي لكل فساد ولكل كارثة.
اقرأ/ي أيضًا: في برنامج "في أمل".. دريد لحام خائن لضميره
في طريقنا للتعرف على استراتيجيات التفكير التي اتبعه النوري في فهمه لظاهرة انبثاق الهويات الطائفية التي اخترقت المجتمع السوري، إبان الأزمة كما يحلو له أن يسميها، نعثرعليه متلعثمًا كما لو أن السؤال قد فاجأه، ثم مترددًا قبل أن يحزم رأيه ليعود علينا بعملية إنكار قاطعة لوجود مثل هذا الشعور الطائفي لدى جميع الأطراف السورية المتحاربة، سواء قبل الأزمة أو بعدها مدللًا على كلامه برفض أمهات الجنود القتلى استعمال مصطلحات طائفية في معرض نعيهن لأولادهن، لأنهن يستبطِنّ وعيًا وطنيًا خالصًا كما يدعي النوري، لم يتلوث ولن يتلوث بالوعي الطائفي، وكيف له أن يحدث وسوريا تحتوي تنوعًا عقائديًا ومذهبيًا فريدًا من نوعه.
تنطوي أفكار النوري عن التجلي الطائفي في سوريا على سذاجة منقطعة النظير، كونه إما غير مطلع على تاريخ الطائفية السياسية في سوريا التي كانت مشابهة في طبيعتها لبنية المجتمع اللبناني، والتي وإن ألغيت بقرار من أديب الشيشيكلي عام 1953 لم تزل مفاعليها السياسية والشعبية حاضرة حتى اللحظة الراهنة، أو غير راغب بتصديق أن انقلاب حافظ الأسد لم يكن في جوهره إلا جزءًا من هذه التركيبة الطائفية التي كانت تحكم سوريا من قبل، والذي عمل الرجل على استثمارها على النحو الأفضل لتخدم رغبته في البقاء في السلطة والتمتع بامتيازاتها.
لا يريد عباس النوري أن يصدق أن الأسد في سوريا لم يعمل على بناء مجتمع سوري بهوية وطنية جامعة مؤسسة على فكرة المواطنة، وإنما بذل كل ما يستطيع للحفاظ على هوية الجماعات الأهلية ذات الانتماء الديني ليستثمرها في ترسيخ حكمه على السوريين، مع أنه كان أحد أركان العمل الذي شاركوا بحماس لإنجاح مسلسل "ترجمان الأشواق" الذي قامت إحدى اللجان الرقابية بإقرار إنتاجه من قبل "الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون" زمن الوزير محمد رامز ترجمان، وقامت لجنة أخرى باحتجازه ومنعه من العرض زمن الوزير عماد سارة، لشعورها بأنه يحمل نظام الأسد مسؤولية الإخفاق في تحقيق الاندماج الوطني بين السوريين.
لا يريد عباس النوري أن يصدق أن الأسد في سوريا لم يعمل على بناء مجتمع سوري بهوية وطنية جامعة مؤسسة على فكرة المواطنة
أثبت النوري في حواره مع محرز قدرة عالية على القيام بمناروة كبيرة تجاه الأسئلة المطروحة عليه، فتارة نراه يجاري طارحها بالإجابة وفق ما يريد، وتارة يقول ما يرغب غيرعابئ بردات فعل محاوره. في بعض محطات الحوار نراه يقفز من موضوع لآخر كما لو كان في عملية تداع حر لأفكار شتى، ففي معرض هجومه على بعض الكتبة الذين لم يسميهم لتصديهم للكتابة عن مدينة دمشق على نحو سطحي، ومعالجتهم لتاريخ المدينة على نحو مبتذل، يتبنى فكرة محاوره محرز عن المؤامرة التي قد تنوطي عليها مثل هذه الأعمال الدرامية، ليسحبها على فكرة حقوق الإنسان ذاتها التي بدلًا من أن يدافع عنا ويتبنى محتواها من حيث كونها أول وثقية عالمية في التاريخ البشري تنتصر لمفهوم الإنسان وكرامته، بغض النظر عن معتقده وعرقه وثقافته، يقوم بمهاجمتها لكونها من صنع دول استعمارية لا تتهيب في توظيفها كأداة سياسية أسهمت على نحو عميق في الانتقاص من سيادة الدولة الأسدية، التي لا تجد حرجًا في الاعتداء على حق شعبها بالحياة حتى بالكيماوي. يرغي عباس النوري ويزبد على الدول الغربية التي تطالب الدول المستبدة من أمثال دولة الأسد بضرورة احترامها لحقوق الإنسان، مذكرًا إياها بماضيها الاستعماري البغيض، ليتسنى له القفز عمدًا عن حقيقة الحرب الذي شنها النظام الأسدي على الشعب السوري منذ 1970 وما يزال، ويرد الجميل للبرنامج الذي استضافه، ذلك البرنامج الذي يأخذ على عاتقه مهمة منح فنانين النظام فرصة الإدلاء بحصتهم من الدفاع عن الوطنية السورية متمثلة بنظام الأسد "المجيد"، دون أن يبالي بالوضيعة التي يضع بها البرنامج ضيوفه، أولئك الضيوف الذي لا يجدون حرجًا في مناقشة كل القضايا والأفكار التي تتعلق بحقوق الإنسان العالمية مثلًا، دون أن يجدوا الجرأة في أنفسهم لمناقشة حقوق المواطنين السوريين التي ينتهكها النظام على الطالع والنازل، حالهم في ذلك حال الشخص العقائدي المتزمت الذي وصفه الشاعر مظفر النواب "يناقش في كل قضايا الكون ويهرب من وجه قضيته".
اقرأ/ي أيضًا: "فرع فلسطين" اغتال نيراز سعيد.. استشهاد علني لحارس رسائل اليرموك
يبدو عباس النوري في آرائه النقدية عن التاريخ أقرب ما يكون لشخصية الواعض منه للناقد، فالرجل كما يحب أن يصدّر نفسه لنا مأخوذ بصورة نقية للعالم عنوانها البراءة، تلك البراءة التي تدفعه للكشف عن الكذب الذي يتخلل العالم، خاصة ذلك الكذب العابر للأجيال والأزمنة الذي قد يلحق بناقليه أو حامليه الدنس والإثم. فصلاح الدين الأيوبي (1138 ـ 1193)، من وجهة نظره، كذبة كبيرة، لأنه كما يراه ليس ببطل ولا بمحرر، وإن أكثر ما يليق به هو حشره مع فئة قطاعي الطرق وناكري الجميل، فالرجل في بطولاته المتخيلة لا يتعدى عن كونه مثالًا للصناعة الناصرية والإخوانية معًا في بحثهما عن مخلص ما لهذا العالم. يبدي عباس تفهمًا تجاه الناس البسطاء الذين انطلت عليهم كذبة صلاح الدين المحرر، لأنّ ذلك ناجم عن جهلهم بما نقل لهم من زعمائهم، إلا أنه شديد العتب على زعماء من طينة حافظ الأسد الذي وقع في حبائل وإغراء شخصية الأيوبي الشريرة وتحمسه المفرط لأن يكون امتدادًا بطوليًا، سواء عبر تبنيه لشعار "من حطين إلى تشرين"، أو عبر إعطائه الأوامر لإقامة نصب تذكاري يمجد أعماله البطولية الزائفة. يُظهر النوري في موقفه من صلاح الدين وتمثاله حالة براءة من الكذب الذي يدعيه الرجل، دون أن يبدي مع ذلك أدنى حد من الشك تجاه الكذب التي تحفل بها تماثيل حافظ الأسد على طول البلاد وعرضها، فما رأي النوري بكذبة بطل التشرينين التي سوقها الاسد عن نفسه؟ ولمَ لم يتساءل الرجل المأخوذ ببراءة العالم عن الغزو الذي نفّذه الأسد من خلال حركته التصحيحة التي أصر على إظهارها للسوريين كعمل بطولي خارق للعادة؟ وماذا عن المعركة التي خاضها بدم السوريين 1973 ليصنع مجدًا زائفًا، والتي لم تكن في حقيقتها أكثر من منفذ للدخول إلى العالم الأمريكي الذي يكنّ النوري لحقوق الانسان التي يدعيها كل احتقار؟
في محاولة عباس النوري القبض على صلاح الدين التاريخي، يتعسف في مساءلته إلى الدرجة التي تمنعه من رؤية الأيوبي ضمن شرطه التاريخي
في محاولة النوري القبض على صلاح الدين التاريخي، يتعسف الرجل في مساءلته إلى الدرجة التي تمنعه من رؤية الأيوبي ضمن الشرط التاريخي الخاص بثقافة وقيم العصور الوسطى، وهو إذ كان يعيب عليه عدم تعاونه مع نور الدين الزنكي ضد الصليبين ومن ثم تمرده عليه، فإنه لا يفهم طبيعة ثقافة الفارس الإسلامي أو المسيحي الأوروبي الذي يفضل الوصول إلى سدة الرئاسة والتحكم بها ما استطاع إليها سبيلًا، حتى لو كان ذلك على حساب أخيه وبني قومه، فما بالك برئيسه المنتسب لعصبية أخرى؟ فهل يعرف السيد عباس أن حاكم طرابلس الصليبي ريموند الثالث قد تآمر مع صلاح الدين على إيقاع الهزيمة بملك بيت المقدس آنذلك غي آل لوزينيان في معركة حطين لأنه لم يعتقد بأحقية لوزينيان في الوصل إلى السلطة عن طريق زواجه من سيبيلا، أم الملك بدوين الخامس؟ في محاولة جديدة لتبخيس مقام صلاح الدين في عيون محبيه الذين انطلت عليهم كذبته كمحرّر للقدس، يذكرنا النوري بحقيقة دخول الأيوبي القدس بعد معركة فاشلة قادت لقبوله بتوقيع عقد صلح مذل مع الصليبين، متناسيًا أن الصلح المذل لم يكن في حقيقته أكثر من حصول ما تبقى من الـ1400 مقاتل صليبي الذين دافعوا عن القدس في وجه صلاح الدين على العفو مقابل دفعهم للفدية، في الوقت التي كان صلاح الدين يصر بعدم العفو عنهم في بداية المعركة التي استمرت 14 يومًا.
اقرأ/ي أيضًا: مي سكاف والعزاء الممنوع
إن مطالبة النوري بنزع طابع القداسة عن الشخصيات التاريخية في تاريخنا الإسلامي مطلب ضروي، ليتعرف الناس على الشروط والظروف التي رافقت نجاح أو فشل تلك الشخصيات، مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار عدم اللجوء للحط من قدر تلك الشخصيات أو تبجيلها بأكثر مما تستحق، وما ذلك إلا لكي تشكل تلك الدراسة مدخلًا للتخلص من الاستثمار السياسي المبتذل الذي اتخذه كل من الأسد وعبد الناصر في سبيل البحث عن شرعية متخيلة في التاريخ. رغم دعوة النوري البرئية للتخلص من أوهام التاريخ وأكاذيبه فإنها لا تقنعنا إزاء صمت الرجل عن أكاذيب الأسد وابنه، على الرغم من الواقع العياني والفاضح لتك الأكاذيب، إلّا اذا كان الرجل يجد ضرورة في التخلص من كل شخصية إسلامية قد تثير بطولاتها المتوهَمة المقارنة المجحفة مع أكاذيب بيت الأسد الفاقعة، وتحرض الناس على القيام بالثورة ضدهم.
اقرأ/ي أيضًا: