ما معنى أن تنتعش الرواية البوليسية في "الدول السعيدة" الخالية من الجريمة، مثل النرويج وفنلندا والسويد والدانمارك وهولندا، حيث تتصدّر مشهدَ الكتابة والقراءة هناك، في مقابل ندرتها في دول العالم الثالث، حيث تكاد الجريمة تشارك السكانَ وجباتِ طعامهم؟
ما معنى أن تنتعش الرواية البوليسية في "الدول السعيدة" الخالية من الجريمة؟
في الجزائر مثلًا، يجد الباحث الراغب في إنجاز أنطولوجيا، تضمّ عشرَ تجاربَ في الرواية البوليسية، صعوبة بالغة، لا تختلف عن الصعوبة التي يجدها المحققون في فكّ شفرات جريمة غامضة، خاصة إذا كان حريصًا على مراعاة النباهة والعمق والمواكبة لجديد الجريمة وطرق الكشف عنها وعن ألغازها، واللغة القادرة على خلق التشويق وامتلاك القارئ، وهي أهمّ العناصر التي تمنح الرواية البوليسية مصداقيتها.
اقرأ/ي أيضًا: عماد الدين موسى.. كجندي منشق وبفردة حذاء واحدة
في ظلّ هذا الفراغ، رأى الروائي الجزائري عبد اللطيف ولد عبد الله (1988) أن تكون روايته الأولى بوليسية، عن منشورات "الاختلاف" و"ضفاف"، ورأى أن يكون عنوانها "خارج السيطرة" أولى عتبات التشويق، وبرمجة القارئ على انتظار أحداثٍ ومشاهدَ وخيوطٍ وتفاصيلَ تخرج عن سيطرة المحققين، فهل سيطر الكاتب على مفاصل نصّه، مستفيدًا من كونه معماريًا؟
مدخل الرواية من أخطر المفاصل التي ينبغي على الكاتب ألا يضيّع فيها طلقتَه، فكلّ دخول خاطئ أو ساذج أو بارد أو فضفاض يؤثر في بقية البناء، وقد يطرد القارئَ منذ الصفحات الأولى، حتى وإن كانت هناك فتوحات سردية وجمالية فيما يلي من الصفحات، ويصبح الأمر أكثرَ تأثيرًا بخصوص الرواية البوليسية، ذلك أن القارئ لا يقتني هذا النوع من الروايات ليلحس عسل البلاغة، بل ليسلّي مخّه بقراءةِ/ مشاهدةِ حكايةٍ نبيهة.
تتبع سيارة قديمة سيارة "يوسف" الحديثة، يركنها، في أحد شوارع مدينة معسكر، ليشتري علبة سجائرَ له وأخرى من الفرولة، يظهر -بعد دقيقتين- أنها لامرأة جميلة، تفتح له الباب، وتغلقه بعد أن يدخل. غلقُ الباب في الحكاية هو فتح لباب الحكاية نفسِها. طَفْ.. لقد تمّ اقتناص القارئ.
بعد ثلاث سنوات: يُطلق يوسف عينيه إلى شرفتها، فيرى لباسَها الداخليَّ وألبسة لطفل في سنّ الثالثة، يسأل: هل أنا أبوه؟ يطلع الفتى "مراد" مثل مفاجأة غير سارّة، ذلك أنه كان مسجونًا، بتهمة تبدو على علاقة بالمرأة. يتجاذبان حديثًا جمريًا، ثم يفترقان في العتمة. تمتدّ يد شبحية إلى يوسف، وتهديه رصاصتين عطشانتين في صدره، فيما يبقى رنينُ هاتفه على قيد الإلحاح. يغادر يوسف الحياة، فيما يرفض القارئ مغادرة الحكاية.
مدخل الرواية من أخطر المفاصل التي ينبغي على الكاتب ألا يضيّع فيها طلقتَه
لا أرى أن وظيفتي هنا، أن أستجيب لفضول الفضوليين، فأروي بقية الخيوط، تلك وظيفة الرواية نفسِها، غير أني أشير إلى أن عبد اللطيف ولد عبد الله برع في لفّ القارئ بخيوطه، حتى بات سجينَها، ثم راح يفكّها خيطًا.. خيطًا إلى أن واجه القارئُ نفسَه، وبات احتمال إعادة القراءة من جديد، أكبرَ الاحتمالات، ليس من باب أن الحكاية بقيت ملتبسة، فقد وصل بها كاتبُها إلى "منتهاها"، بل من باب استرجاع اللذة، لذة النص بتعبير رولان بارت، فالأمر يشبه أن نأكل اللحم، ثم نسترجع لذته، بتنقية العظم الذي كان يحمله.
اقرأ/ي أيضًا: حلب.. من التتار إلى التتار الجدد
لا شكّ في أن معرفتي العميقة بالفضاء المكانيِّ للرواية، مدينة معسكر، 400 كيلومتر غرب الجزائر العاصمة، ساهمت في توريطي في مناخاتها، غير أن قدرة الكاتب على أنسنة مكانه، الذي لم يدخل الرواية إلا نادرًا، ورصدِ ملامحه ونبضه ومناطقه المضيئة والمعتمة، وذكرِ مسمياتها، تمامًا كما هي في الواقع، تجعل القارئ يعيش هذا المكانَ، ويتشرّب الأحداث، حتى وإن كان ينتمي إلى ثقافة وجغرافيا مختلفتين.
تنسحب دقة هذا الرصد أيضًا، على الملامح الجسدية والنفسية للشخوص، حتى إننا نكاد نلتمس أشباهَهم في الواقع، أو نستوقف أحدهم في الشارع لنسأله: "هل أنت فلان؟". من غير الوقوع في الابتذال والثرثرة، فقد كانت هذه الدقة من مقتضيات الحالة السردية والإنسانية، والإجرائية خاصة، بحكم الطبيعة البوليسية للنص، فقد يكون لون الشعر أو طبيعة الحذاء أو العطر المستعمل أو نبرة الصوت أو طريقة المشي، مدخلًا مهمًّا لمعرفة سرٍّ مهمّ، أليست بلاغة الرواية البوليسية هي بلاغة الأسرار؟
بلاغة الأسرار هذه، تعزّزت في رواية "خارج السيطرة"، باستفادة الكاتب من التقنيات السينمائية المختلفة، في تمرير ما يجب أن يُمرّر من مشاهدَ ومخاوفَ وهواجسَ وأفكارٍ ومناخاتٍ وأسئلة، تقديمًا وتأخيرًا وقصًّا ولصقًا وإضاءةً وتعتيمًا، بما يضاعف جرعتي الفهم والفضول في الوقت نفسِه، وفق لغةٍ سلسة لا تؤمن بالتنطّع، وتعي دورَها عميقًا، في خدمة فكرة الكاتب ومتعة المتلقي.
اقرأ/ي أيضًا: