تُشبه قصيدة عبير خليفة خطابًا إنسانيًا مُنبثقًا من واقع هزيمةٍ خرجت من إطارها الشخصي لتكون هزيمةً جماعيةً عامّة. الشِّعر نفسهُ عند الشاعرة اللبنانية الشابّة يبدو أقرب إلى أصواتٍ أخيرة لجماعةٍ يختفي صوتها تدريجيًا، وتجد في الشِّعر صوتًا بديلًا وكذا وسبيلًا للتخلّص من شعورها بالامتلاء، وبأسلوبٍ يتماشى مع عادتها في التقشف بالكلام شأنها شأن صاحبة "أنا الأميرة، أنا الأمَة" التي تُخضع نُصوصها لتقنيات الحذف والاقتضاب والصقل، وكأنّ الاستلام لتدفّق اللغة والصّور سبب كافٍ لبثّ التوتّر في نفس الشاعرة الشابّة التي لن تتغلّب عليه إلّا بالتجريب المستمر، قبل الخروج بحصيلةٍ نهائية تُرضي ذاتها وكذا مشاغلها وأمزجتها بالدرجة الأولى.
يُمكن قراءة قصائد عبير خليفة كتأويلاتٍ متواصلة لرجاءاتٍ وآلامٍ وذكرياتٍ وانكساراتٍ وصراعاتٍ نفسية مريرة
في مجموعتها الشعرية الجديدة "أن تُكرّر الأخطاء نفسها" (دار مخطوطات، 2017) تكتب الشاعرة اللبنانية عبير خليفة قصائد يُمكن قراءتها، في مكانٍ ما، كتأويلاتٍ متواصلة لرجاءاتٍ وآلامٍ وذكرياتٍ وانكساراتٍ وصراعاتٍ نفسية مريرة، وكأنّ القصيدة هنا مكتوبة بحيث تستجيب لضغط الحالة النفسية المُعاشة للشاعرة التي تجعل منها حالةً عامّة عبر إخراجها من الحيّز الشخصي الضيّق إلى الحيّز العام، تمامًا كما لو أنّها تُحاول التخفّف مما ذكرناهُ من خلال تعميمه حينًا، ومشاركته مع الآخرين حينًا آخر. تقول: "ينسدل الليل/ نهوي جميعًا/ جاثين على التراب/ ثمّ تعلو صيحة شتيمة/ وفي كلّ مرّة/ كانت العتمة تُخفي مصدر الصوت". تعميم عبير خليفة للمأساة أو الألم أو المشاعر السلبية بشكلٍ عام يمنحها قدرةً أكبر على سرد مشاعرها دون أن يتحوّل النص الذي بين يديها إلى نصٍّ تراجيديٍّ أو بكائيٍّ بالضرورة. تقول في نصٍّ عنونته بـ"هُزء": "لدي صورة متكاملة/ لانهيار الحضارة/ المآسي ومن ورائها/ صورة زوال الليل والنهار/ صورة مشبعة بالفراغ/ حيث يقف كلّ منّا/ وجهًا لوجه أمام ضعفه".
اقرأ/ي أيضًا: أديل الخشن: أيتها الريح توقفي خارجًا
قصيدة الشاعرة الشابّة التي قدّمت "ما مات يُولد" تأتي من ذاكرتها حينًا، ومن أمزجتها حينًا آخر. إنّها حصيلة أو نتيجة علاقة صدامية بينها وبين نفسها، ويُمكن تلمُّسها في غالبية قصائد مجموعتها هذه، والتي تُعيد فيها كتابة شذراتٍ شخصية وتحويلها إلى مجموعة نصوص ليس من المهم على ما يبدو بالنسبة لخليفة أن تكون شعريتها مُكتملة. إعادة كتابة ما هو شخصي يأتي بالألم إلى القصيدة دون أن تتورّط كاتبتها في البكائيات الطويلة، وتستحضر كذلك العزلة دون أن تُفرط أيضًا في الإشارة إلى الخيبات التي كانت سببًا لها، أي العزلة.
عبير خليفة شاعرة لا تزال تُنشد التجريب دون الوصول إلى ملامح ثابتة لقصيدتها
استهلال القصيدة وشكلها ومضمونها بالإضافة إلى نهايتها يجعل من هذه الفرضية مستمرّة في مرافقة القارئ الذي يكتشف أنّ عبير خليفة اتّخذت لنفسها زاويةً بعيدة عن الذات للحديث عنها وعن شواغلها وعذاباتها وخيباتها أيضًا. زاوية تُمكّنها من الكتابة عبر الاتّكاء على قوّة التأمّل، وفلسفة الألم، والانحياز عن الاستسلام للنفوذ السلبي للوجدان المنكسر أو الساذج أيضًا. هكذا، نقرأ: "وحيد ومشغول/ بالريح الماضية التي نسيته/ مع بدء فصلٍ جديد". و"أخبرت البائع أنّ حياتها بعيدة/ كمفرقعاتٍ على بعد أميال/ تراها جيدًا/ لكنّ صوتها يتأخّر في الوصول".
اقرأ/ي أيضًا: الأعمال الشعرية الكاملة لبسام حجّار.. كلمات صاحبها الأسى
هكذا نكون في "أن تُكرّر الأخطاء نفسها" نُعيد قراءة عبير خليفة كما قرأناها في "أنا الأميرة، أنا الأمَة"، و"ما مات يولد". ولكن، بنفسٍ تجديديٍّ ونضوجٍ أكثر في التعامل مع القصيدة. ما معناهُ أنّ شِعرها لا يزال مُحمّلًا بألاعيب وحيل قليلة تُبهر القارئ وتصرف انتباههُ عن المعنى. ولا يزال أيضًا مكتوبًا بالقليل من العاطفة والكثير من التأمّل الذي يُحمّل القصائد هواجسًا وأفكارًا هي، ومن كل الزوايا التي يُمكن النظر إليها من خلالها، عرضًا للذات وارتطاماتها النفسية، وكذا تفاصيلها اليومية أو الحياتية، بمعنى أنّ جزءًا من يوميات عبير خليفة يحضرُ في مجموعتها هذه وتُمكّننا من التعرّف بشكلٍ أكبر إلى عبير خليفة كشاعرة لا تزال تُنشد التجريب دون الوصول إلى ملامح ثابتة لقصيدتها، ناهيك عن هوسها باللعب على المفردات ومعانيها، والاشتغال بكثرة على الحذف والاقتضاب. نقرأ: "حجارة صغيرة أجمعها/ لأحصل على صورتك/ بينما صوت ينبّهني/ لا تضعي الحجر في مكانه/ إنّه وثن/ لكنك تكتمل/ وأفقد حماستي". في قصيدة أخرى: "ما نفع الأحلام إن لم تحدث؟/ نستهلك بها الليل، ربّما". أو: "كأن تستهلّ بجملة/ تتجرأ فيها على إغماض عينيك ووصفه/ العينان سوداوان/ والفمّ أصغر من أن يُذكر/ بينما ليس هو الذي تراه/ بعد نهاية الكلمات".
اقرأ/ي أيضًا: