أجرى التلفزيون العربي مقابلة خاصة مع مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات المفكر العربي عزمي بشارة حول الحرب على غزة، واستعرضت المقابلة تطورات الوقائع والمواقف ومسار الأحداث بشكل عام في العدوان الإسرائيلي المستمر على القطاع المحاصر.
استهداف المستشفيات والتواطؤ الدولي
استهلّ المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حديثه عن استهداف المستشفيات التي تحولت إلى ملاجئ، حيث تحتضن بالإضافة إلى المرضى والمصابين آلاف النازحين. معتبرًا أنّ ما هو غير مسبوق في استهداف إسرائيل للمستشفيات هو التواطؤ الدولي مع ذلك الاستهداف، فلا إدانات غربية حقيقية رغم فداحة الأمر.
ونبّه المفكر العربي إلى تطور الخطاب الإسرائيلي بما يخص استهداف المستشفيات: من إنكار قصفها في واقعة استهداف المستشفى المعمداني، إلى تبرير عمليات استهداف المستشفيات بقضية الأنفاق، وصولًا إلى القيام بقصفها واستهدافها دون تكليف نفسها عناء التبرير.
كما لفت بشارة النظر إلى العريضة التي وقعها 100 طبيب إسرائيلي يطالبون فيها جيش الاحتلال بقصف المستشفيات في غزة وتفجيرها بدعوى كونها بنية تحتية لحماس. قائلًا: "إن الموضوع يستعصي على اللغة"، مشيرًا إلى مصائر الموجودين في المستشفى الذين يوجد بينهم أطفال خُدج في الحضانة، ومرضى كُلى يحتاجون لغسيل، والمرضى في العناية المركزة وغرف الجراحة وغيرها.
وضع المسؤولون في تل أبيب خطة عسكرية بعد السابع من أكتوبر، لكنهم لم يفكروا بكل السيناريوهات، وعلى ذلك الأساس بدأوا يلائمون الوقائع مع هذه الخطة
وفسّر بشارة تصرف دولة الاحتلال بهذا الشكل بأمرين اثنين، ما عدا مسألة العنصرية تجاه الفلسطينيين:
- الأمر الأول، أن الإسرائيليين تستحوذ عليهم فكرة الأنفاق التي لا يملكون أدلة على وجودها تحت المستشفيات.
- الأمر الثاني، قناعة الإسرائيليين أنّه لا يمكن تهجير الشعب في شمال غزة بدون إنهاء حالة المستشفيات ولو تطلب الأمر كل هذه الوحشية.
وتساءل عن الكيفية التي ستواجه بها الدول في المستقبل تمريرها ما حدث مع المستشفيات في غزة؟
التهجير
في ما يخص النزوح الاضطراري لسكان غزة من الشمال إلى الجنوب، اعتبر المفكر العربي عزمي بشارة أنّه بعدما حصل في 7 أكتوبر، كان المسؤولون في تل أبيب مضطرين لوضع خطة عسكرية، لكنهم لم يفكروا بكل السيناريوهات، وعلى ذلك الأساس بدأوا يلائمون الوقائع مع هذه الخطة، مع عدم استبعاد أن يكون التهجير من الشمال نحو الجنوب تمهيدًا لتهجير آخر نحو سيناء.
وقد بدأ حديث الإسرائيليين بالفعل عن أن الأسرى وقادة حماس والأنفاق توجد في جنوب غزة الذي تجمّع فيه الناس، وهنا تساءل بشارة عن ماذا سيفعل جيش الاحتلال الآن؟ متحدثا عن احتمالين: الاحتمال الأول، يتمثل في وجود مخطط شيطاني لتهجير سكان غزة نحو سيناء. والاحتمال الثاني، أنّ الإسرائيليين يتصرّفون بارتباك، معتبرًا أن هذا الأخير هو عنصر مهمم لا يجب إخراجه من الاعتبار، لأنهم لم يخططوا لكل ذلك، وخططهم لا تجري بالضرورة وفق ما خططوا له، مع الوضع في الحسبان كمّ الوقت الذي لديهم، وأنّ إسرائيل لم تواجه بعد كل ما جهّزته المقاومة في قطاع غزة.
وبناءً عليه، استنتج المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أنه إذا لم تكن لدى المسؤولين الإسرائيليين "خطة للاحتلال فليست لديهم بالتأكيد خطة لليوم التالي"، وذات الأمر يصدق على الأمريكيين، ولذلك بدأ حديثهم مع الدول العربية حول اليوم التالي للحرب أي بعد القضاء على حماس بإنهاء حكمها وتدمير قوتها العسكرية، إلا أن العرب رفضوا "رسميًّا على الأقل" التسليم بنتائج الحرب والحديث مع الأمريكيين حول سيناريو اليوم التالي.
ولفت بشارة إلى أن الأمريكيين يكررون ذات الأسطوانة بحديثهم عن مؤتمر للسلام وحل الدولتين، فقد جربوا ذات الطريقة بعد حرب العراق، حيث عقد مؤتمر مدريد للسلام، وبعده انتقال الحديث عن مسار السلام، وما ذلك إلا لمعرفة الأمريكان "أنه لا يوجد استعداد إسرائيلي" لتنفيذ حل الدولتين، وسيزيد الإصرار الإسرائيلي على الرفض "إذا أنجزت إسرائيل هدفها من الحرب"، حسب بشارة الذي وصف الحديث عن حل الدولتين بأنه كلام مجتر.
واختتم مؤلف كتاب "من يهودية الدولة حتى شارون" حديثه حول هذه النقطة بالتأكيد على أنّ الإسرائيليين "لا يمكنهم أن يبقوا في غزة، التي انسحبوا منها 2005 في ظل قيادة شخصية متطرفة كشارون".
وعليه يرى بشارة أنّ الإسرائيليين "يبحثون عن شريك عربي يقبل إدارة شؤون السكان في قطاع غزة"، واضعين في الاعتبار العمل على تقليل السكان قدر الإمكان، وهذا يعني تطبيق نموذج الضفة الغربية الذي هو نموذج فاشل بحسب بشارة.
وهنا نوّه إلى سؤال كبير يجب وضعه في الاعتبار، وهو ردّ فعل الناس على إسرائيل بعد كل ما حصل، علمًا بأنّ هذا الرد مشحون بمشاعر شديدة بالرفض والحقد لكل ما تمثله إسرائيل. وعليه فإن الحديث "عن ترتيبات سلسة أو مرنة لحكم غزة مبكر جدًا".
المقاومة الفلسطينية هي مقاومة تحت الحصار، ومع ذلك نجحت في تصنيع الأسلحة وبناء أنفاق دفاعية وهجومية وحققت صمودًا في مواجهة آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية
وفي هذا السياق، أشار مؤلف "صفقة نتنياهو ترامب"، إلى أنه ولا مرة كانت إسرائيل جاهزة لدفع أعباء الاحتلال. وهذا أمر طبيعي بالنسبة لاحتلال استيطاني "يريد أن يستبدل السكان المحليين لا أن يستثمر فيهم"، وتقوم استراتيجيته على "التدمير لا التطوير أو التنمية".
صمود المقاومة وصمود الشعب
حول هذه النقطة لفت بشارة الانتباه في البداية إلى أنّه لا توجد مقارنة بين إسرائيل والمقاومة من ناحية التسليح، فإسرائيل دولة عسكرية، يضم جيشها 500 ألف جندي، بينما المقاومة الفلسطينية هي مقاومة تحت الحصار، ومع ذلك نجحت في تصنيع الأسلحة وبناء أنفاق دفاعية وهجومية وحققت صمودًا في مواجهة آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية. وهذا بحد ذاته شيء يستحق أن يفخر به كإنجاز ويستحق أن يدرس.
وأضاف القول: "إنّ المقاومين يسجلون سطورًا في البطولة والتضحية، لأن لديهم تصميم وإسرائيل لا تطرح لهم مخارج"، فالأمر بالنسبة إليهم "صراع حياة أو موت"، وما قدمه المقاومون "هو شيء كبير بكل الحسابات"، علمًا بأن المعركة ما زالت مستمرة وإسرائيل لم تواجه بعد كل ما هو موجود ومجهز عند المقاومة للمواجهة.
لكن بشارة وجّه بعض النقد للخطاب الإعلامي الرسمي للمقاومة قائلًا إنه "لا يرقى للمستوى المطلوب"، فما تحتاج إليه قضية عادلة كالقضية الفلسطينية هو لغة عادلة، ترقى لدرجة النضال والتضحيات ونضال الشعب ومعاناته.
صفقة تبادل الأسرى
جدّد بشارة تأكيده أن موضوع الأسرى بالنسبة لنتنياهو هو موضوع ثانوي، وأنّ القضية الرئيسية بالنسبة لرئيس حكومة الاحتلال هي الخطة العسكرية، وأنّ كل ما يظهره من حرص على الأسرى هو بسبب الضغط الشعبي الكبير، وإلا فإن كل السلوك على الميدان مناقض لما يظهره، فالقصف العشوائي دليل عدم اكتراث لمصير الأسرى، كما أنّ سلوك نتنياهو في المناقشات الجارية لإبرام صفقة تبادل تدل على ثانوية القضية، فهو يقايض بدون توقف عدد المحررين بأيام الهدنة الإنسانية وليس بوقف إطلاق النار. معلقًا بالقول إن هذا "نقاش قيادات لا يهمها كثيرًا حياة الأسرى".
كما لفت إلى أن ثمة أمرًا آخر لا يؤخذ بجدية رغم مطالبة أهالي الأسرى به وهو "مطلب تحرير الجميع مقابل الجميع".
وأخيرًا، أبدى استغرابه من حديث العالم عن أسرى بالعشرات، هم الأسرى الإسرائيليين، وتجاهله لآلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، بينهم أطفال ونساء ومرضى.
الأوضاع في الضفة الغربية
أكّد المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن إسرائيل تستغل حالة الحرب في غزة لتصفية حسابات مع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، على الرغم من مساعيها لتجنب فتح جبهات أخرى، لكن هذا شيء، يجب فصله، عن استغلال المستوطنين لما يجري في غزة لتحقيق أغراضهم على نحو شيطاني من قبيل "قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، ومضايقة الفلاحين والتجار، وفرض حالة من الرعب، وتصفية جيوب المقاومة في الضفة".
القمة العربية
بدأ المفكر العربي حديثه حول هذه النقطة بالقول إنه على مستوى المزاج الشعبي يوجد موقف مستهزئ لا يتوقع شيئًا من الزعماء، مؤكدًا أنّ التوقعات ليست كبيرة من قمة يجتمع فيها زعماء مختلفون، مشيرًا إلى حالة المغرب والجزائر، وسوريا، واليمن، والسودان. لكنه اعتبر أنّ القمة ترجمت وضعًا فيه إنجاز لطوفان الأقصى، وهو عودة القضية الفلسطينية إلى صلب الاهتمامات.
رأى عزمي بشارة أن القمة العربية الإسلامية أفرزت قرارًا عمليًّا واحدًا هو كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، ودعا إلى تنفيذ ذلك على أرض الواقع بإدخال قوافل الإغاثة والمساعدات إلى قطاع غزة
وقال إن القمة العربية الإسلامية أفرزت قرارًا عمليًّا واحدًا هو كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، داعيًا إلى تنفيذ ذلك على أرض الواقع "بإدخال قوافل الإغاثة والمساعدات إلى قطاع غزة دون ارتهان للخطة العسكرية الإسرائيلية".
ونوّه صاحب كتاب "أن تكون عربيًا في أيامنا"، إلى أمرين مهمين في مخرجات القمة، أولهما ما ورد في الديباجة من كلام ضد التطبيع باعتباره سلامًا غير عادل ما دام حل الدولتين لم يتم. والأمر الثاني هو الرفض القاطع للخطاب الأمريكي والغربي المتمثل في تقديم ما يحدث على أنه "دفاع عن النفس تقوم به إسرائيل".
وفي رده على سؤال حول خطاب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وصف بشارة الخطاب بالمخيب، حيث كان من المفترض أن يتحدث بكلام غير الذي تحدث به. متسائلًا: "بماذا اختلف خطابه في هذه المناسبة عن خطابه قبل شهرين؟".
الموقف الأمريكي
تحدث الدكتور عزمي بشارة، عن محددين في هذا الموقف، الأول هو تماثل الموقف الأمريكي مع تل أبيب، والثاني هو الإجماع الداخلي الإسرائيلي، معتبرًا أنّ الأمريكيين والإسرائيليين ما يزالون مشتركين في الأهداف، لكن الإدارة الأمريكية "أصبحت لديها مشاكل حقيقية داخلية، فكل التيار اليساري داخل الحزب الديمقراطي ينتفض، والجيل الشاب من اليهود أيضا ضد الحرب".
وقد أثّرت هذه الموقف في خطاب الإدارة الأمريكية العلني الذي بدأ في التحفظ، والذي بدأ أيضا محرجًا أمام الرأي العام.
لكن بشارة عاد ليؤكد أن "التحالف الأمريكي الإسرائيلي في الحرب لم يتزعزع"، فإدارة بايدن مستمرة في تقديم "دعم أمريكي غير مشروط لإسرائيل".
ولفت بشارة النظر إلى "تهرب بايدن من المسؤولية" تحت مسمى إسداء النصح لإسرائيل، فيما يخص المستشفيات واستهداف المدنيين، لكنّ ذلك غير مشفوع بضغط حقيقي على نتنياهو. وعليه يجب مواصلة الضغط الشعبي. حيث تحدث بشارة عن أمرين يؤثران في الإدارة الأمريكية: "الأول هو موقف عربي حقيقي مشفوع بخطوات تؤثر على واشنطن، متعلقة بالعلاقات مع إسرائيل. والأمر الثاني هو الرأي العام الديمقراطي وتزايد ضغطه. مع الخوف من المستقبل تحت سؤال أي نتائج ستقود إليها الحرب؟".
المواقف الأوروبية
بدأت فرنسا في تعديل موقفها شيئًا ما بإعلان ماكرون تأييده وقف إطلاق النار، وربط بشارة هذا الموقف بمحاولة فرنسا تاريخيًا "المحافظة على صيغة دولة عظمى مختلفة عن الأنغلوسكسون"، وهو موقف اتخذته فرنسا في حرب العراق الثانية، لكن ماكرون يقوم به بخجل. في المقابل عادت ألمانيا التي تمثل إلى جانب فرنسا أقوى دولتين في الاتحاد الأوروبي إلى تأكيد أنها "ضد وقف إطلاق النار".
واعتبر أن كلًا من الموقف الإسباني والنرويجي والإيرلندي جيد. لكن واشنطن ما زالت تفرض رأيها على الأوروبيين بالمجمل، الذين توجد بينهم أصوات تنتقد إسرائيل، لكنهم لا يتخذون مواقف ضدها إلا نادرًا جدًا.
وفي هذا الصدد، قال بشارة إن "المشكلة مع أوروبا إعطاؤها إسرائيل امتيازات دولة أوروبية، وعقدة الذنب الأوروبية تجاه اليهود"، وأضاف: "يكفينا أن تتوقف الامتيازات الأوروبية لإسرائيل على مستوى السلع وأمور أخرى عديدة".