شهدت مدينة بورتسودان حاضرة ولاية البحر الأحمر السودانية طوال يوم أمس الثلاثاء، احتجاجات واسعة من قبل المواطنيين. وتحولت المدينة التي يطل منها الميناء الرئيس في البلاد إلى منطقة غارقة في المآسي، غمرها الظلام الكامل بسبب تعطل مولدات الكهرباء على نحو مباغت، وبدت أيضًا كمن تلهث وراء مياه الشُرب في مفارقة نادرة، وهي التي تحتضن البحر.
بدأت الأزمة منذ فجر الإثنين، بعد انقطاع التيار الكهربائي في بورتسودان لأكثر من 48 ساعة، الأمر الذي أدى إلى انقطاع المياه
بدأت الأزمة منذ فجر الإثنين، بعد انقطاع التيار الكهربائي في بورتسودان لأكثر من 48 ساعة، الأمر الذي أدى إلى انقطاع المياه وارتفاع سعر لوح الثلج من 75 جنيهًا إلى 500. ونجم عن تلك القطوعات أزمة حادة في مياه الشرب، وبيعها في الأحياء، حيث وصل سعر قاروة مياه الشرب 20 جنيهًا، مع ندرة في المياه المعروضة، وما فاقم المعاناة أكثر حاجة المواطنيين في شهر رمضان إلى المياه والكهرباء بشكل ملح وضروري.
لم يكتف سكان المدينة الذين يصل تعدادهم وفقًا لتقديرات العام 2011 إلى 579,942 نسمة، بإرسال الشكاوى، وإنما دفعهم الشعور بالضيق إلى الخروج في مظاهرات استمرت إلى وقت متأخر من ليلة أمس، وانتظمت مجموعات خرجت للشوارع تطالب بعودة الكهرباء والمياه وتندد بفشل حكومة الولاية في الإيفاء بتعهداتها. وبحسب شهود عيان تحدثوا لـ"ألترا صوت"، فإن الاحتجاجات انتقلت إلى الأحياء ليلًا، وأغلقت المحال التجارية، كما قام المحتجون بإشعال الإطارات، وإغلاق الشوارع بالحجارة للحيولة دون مطاردة الشرطة إليهم، علاوة على لفت الأنظار، ورفعت النساء أوراقًا مكتوبًا عليها "نريد مياه وكهرباء" .
اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان.. صراع متجدد في دولة هشة
وقد انتقلت الاحتجاجات إلى أغلب أحياء المدينة خاصة في (الديوم الجنوبية، كوريا، ترانزيت" وغيرها، فيما ارتفع سعر لوح الثلج من 80 جنيهًا إلى 500 جنيه، وتأثرت بتلك القطوعات حتى المرافق الخدمية، كالمستشفيات، ما ضاعف معاناة المرضى، وتزامنت تلك المشاكل مع عجز العاملين من عدم صرف رواتبهم بسبب عدم توفر السيولة وتوقف الصرافات الآلية، ودافع عدد من المحتجين عن حقهم فى التعبير والتزامهم بسلمية الاحتجاج بهدف إيصال مطالبهم.
لا تكاد تمر مناسبة يزور فيها الرئيس البشير أو أحد نوابه مدينة بورتسودان، إلى وتتكرر الوعود بمعالجة مياه الشرب، وتوصيل شبكات المياه من النيل، ولأكثر من مرة أعلنت وزارة المالية الالتزام بتنفيذ عهد الرئيس بتوصيل مياه الشرب للبحر الأحمر من نهر النيل دون أن تفي بذلك، فسرعان ما تتبخر تلك الوعود، حتى أصبحت مثارًا للسخرية، كما اتجهت الحكومة مؤخرًا إلى الحل بتوفير بعض محطات التحلية وتعاقدت مع عدد كبير منها، ولكنها تعطلت لأسباب مجهولة.
من المهم الإشارة إلى طول أمد معاناة مدينة بورتسودان إزاء مياه الشرب، كما أن مياه البحر الأحمر تعتبر مالحة وغير صالحة للشرب والاستخدام، ويجيء شح مياه الشرب نتيجة لعدم توفر مصادر ثابتة للمياه العذبة، باستثناء ما تجود به الأمطار الموسمية المتذبذبة، رغم أن المدينة توسعت بصورة كبيرة خلال السنوات الأخيرة بسبب الهجرة من الريف، ونتيجة لموجات الجفاف والتصحر والحرب التى شهدتها الجبهة الشرقية فى فترة التسعينيات، وبالتالي تناسلت أحياء المدينة من أحد عشر حيًا فى عام 1964، إلى أكثر من مئة وتسعين حيًا حاليًا.
لم يكتف سكان بورتسودان بإرسال الشكاوى، وإنما دفعهم الشعور بالضيق إلى الخروج في مظاهرات
ورغم السمت المعماري الساحلي لبورتسودان، إلا أن الأحياء العشوائية منحتها طابعًا مختلفًا، حيث تنتشر عربات الكارو التي تجرها الحمير والبقال، تعويضًا عن فشل الحكومات المتعاقبة في توفير الخدمات الضرورية، فيما ظلت التظاهرات المطالبة بتوفير الخدمات بما فيها مياه الشرب، تتكرر سنويًا في الصيف بصورة خاصة.
وتابع رواد مواقع التواصل الاجتماعي السودانية يوم أمس باهتمام ملحوظ ما يجري في المدينة، ونشطوا في رصد تطورات الأوضاع هناك، إلى جانب انتشار وسم تحت عنوان #بورتسودان_ تنتفض، ظل ينقل ويتفاعل مع الأحداث بين الحين والآخر. ولم يكد يوم طويل من المعاناة يتوارى حتى ظهرت الحكومة، أخيرًا، وأصدر والي البحر الأحمر الهادي محمد علي، قرارًا يقضي بإعفاء مدير هيئة مياه الولاية ناجي عز الدين، وتعيين المهندس عالم محمد عالم مديرًا عامًا لها، وبدا وكأن القرار اعتراف متأخر بالأزمة.
وكتب الناشط والسياسي بحزب المؤتمر الشعبي راشد دياب، على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أكثر من تدوينة إزاء ما يجري في مدينة بورتسودان، وقال إنه من حق المدينة التي تعرضت للظلم والتجاهل أن تنتفض وتصيح، وأن "البلد كلها ممكونة جد وصابرة، في أواخر شهر رمضان ناس بورتسودان كهربتهم ومويتهم قطعت لأيام وليالي، لوح التلج وصل 400 جنيه وجوز الموية ب 200، اتخيل بورتسودان شهر ستة لا موية لا نور، الناس قالت كدا وطلعت الشارع".
اقرأ/ي أيضًا: أزمة الوقود في السودان.. إنكار رسمي وطوابير ماراثونية وسخرية مؤلمة
واعتبر راشد أن الاحتجاجات جاءت بنتائج سريعة، وأجبرت الحكومة على التحرك، فقامت بتوفير بعض المياه، وإعادة التيار الكهربائي، ما يعني فاعلية الاحتجاج، وأضاف: "شعب عنده حق الصياح وبستخدمو، يعني شعب يحكم نفسه بي نفسه".
ورغم هذه الأزمات إلا أن ولاية البحر الأحمر عمومًا بحاضرتها بورتسودان ظلت قبلة للمستثمرين والسياح من مختلف أنحاء العالم، وذلك لطبيعتها الخلابة، إذ تغمرها الصخور والشعب المرجانية الملونة، والميادين البحرية التي تتوفر فيها رياضة الغطس وحمامات الشمس، بجانب الجهود التركية لترميم مدينة سواكن بالقرب من بورتسودان على الطراز العثماني القديم، عقب زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لها نهاية العام الماضي، والالتزام القطري بتأهيل وتطوير ميناء سواكن بـ4 مليارات دولار وفقًا للاتفاق الذي تم مؤخرًا بين الخرطوم والدوحة.
اقرأ/ي أيضًا:
حروب الأرض في السودان.. مناجم الذهب عنصر جديد في خريطة الصراعات الممتدة