إذا كنت مصريًا فلابد أنك تتابع التلفزيون في شهر رمضان، سواء كنت عاملاً مياومًا أو رئيس مجلس إدارة، ولابد أن تستوقفك المفارقة بين الملايين التي "تبعزقها" الشركات على إعلانات وبرامج، هي والهراء سواء، وبين تلك الإعلانات التي تستجدي ما تبقى من شهامة وجيوب الجالسين أمام الشاشات.
هل تأكدت أننا لن نأكل، ولن نشرب، ولن نلبس، ولن يشفى أطفالنا من السرطان بدون التبرعات؟
اقرأ/ي أيضًا: 30 يونيو.. فشل الإخوان وغضب الشعب واستغلال العسكر
بينما تفاجئنا الشاشات بصور نرى فيها قصورًا وفيلات فاخرة وسيارات فارهة، تكون الحقيقة المعروفة رابضة في مكان ما داخل عقلك وتؤكدها إعلانات تسوّل -جملة وتفصيلاً- تطلب التبرعات لأجل أخوتك المواطنين الذين لا يجدون طعامًا ولا علاجًا ولا كساء.
ربما يناوشك، مثلما يناوش كثير غيرك من المواطنين، سؤال ملح حول حقيقة ما تشاهده من مظاهر الرفاهية على الشاشة، وحول مصر التي لا تعرفها ولا يبدو أنه ستتاح لك فرصة قريبة لمعرفتها. ربما ستحاول في البداية تكذيب عينيك مستقويًا بما خبرته من مشاهد رأيتها من مكانك خلف شباك الأتوبيس وفي التوك توك المهترئ وعلى الأرصفة، ولكن شيئًا ما سيهمس بداخلك ليخبرك عن ثلة من الأفراد المحظوظين الذين "لعب معهم الزهر" فأصبحوا أصحاب ملايين ومليارات، يزدادون غنى بينما تزداد -وأمثالك- فقرًا. الإعلانات تتوالي في سرد زمني "فاجر"، وعقلك الضعيف لا يحتمل الإغراق في المتابعة.
إلى أين سيصل بك الحال عزيزي المواطن في نهاية تأملك لهذه الصور وتلك الرسائل المضمنة؟ هل تكشّفت لك فكرة أننا دولة يعيش شعبها على المعونات، وأننا لا نستطيع العيش بدونها؟ هل تأكدت أننا لن نأكل، ولن نشرب، ولن نلبس، ولن يشفى أطفالنا من السرطان بدون التبرعات؟ أصدقك القول وأقول لك أن هذه الرسائل هي المقصودة بالفعل من تلك الصور والإعلانات.
اقرأ/ي أيضًا: 5 إعلانات رمضانية تتصدر الجدل في "السوشيال ميديا"
في شهر رمضان تتكثف تلك النزعة "الخيرية" وتكاد تكون محصورة فيه. وإذا كان التقدير والاحترام من ناحيتنا هو الشعور الأولي تجاه كل عمل من أعمال الخير، فإن تلك النزعة "الخيرية" لا تني تؤكد على أننا شعب يتسول الرغيف والكسوة والبيت، والأعجب أن بعضها يُظهر تباهي من يفعلها بالوضع الذي صرنا إليه وكأنه لا يريد أن يتغير طالما سيظل يمنحه نشوة ومردود "فعل الخير" الذي يقوم به.
هذا العام يلاحظ دخول بعض الشركات العقارية، المملوكة لرجال أعمال سيئي السمعة، إلى مجال الأعمال الخيرية ذات البعد التنموي، من خلال تحسين بعض القرى الفقيرة والمحرومة من البنية التحتية. تعلن هذه الشركات بفخر عن قراراها بإنشاء المدارس والوحدات العلاجية وإدخال الصرف الصحي ومياه الشرب، ولكن وسط ذلك يتم تصدير وتسمير صورة عن هؤلاء "الفقراء"، الذين يحمدون الله على كل شيء ولا يرفعون عينهم إلى من هم أعلى منهم وينتظرون الفرج إلا ما لانهاية، إعلان "عودة الروح المصرية" برعاية بالم هيلز. ووسط ذلك يتم إهدار كرامة هؤلاء "الفقراء"، الذين يتم تصوير وجوههم المكدودة والممصوصة من التعب بينما أيدي أطفالهم تتصارع على طبق فارغ فوق مائدة خالية. إعلان بنك الطعام المصري. هذان مثالان على الانتهاك الفاضح للكرامة الإنسانية في إعلانات يُراد بها -ظاهريا- عمل الخير ومساعدة الناس وتحسين ظروف الحياة، ولكنها تقوم في طريقها بدهس الكثير داخل من لا يملكون دفعًا لهذا العدوان السافر على ما تبقى من كرامتهم.
التبرعات موجودة في العالم كله، ولكنها لا تعتمد على مبدأ الشحاذة بهذا الشكل المهين الذي نراه على شاشاتنا الرمضانية
والحقيقة أن ثقافة التبرعات المصرية يشوبها العديد من الأخطاء والمغالطات، التي تصل أحيانًا إلى مستوى الكوارث المجتمعية التي تهدد السلم الأهلي. فالتبرعات موجودة في العالم كله، ولكنها لا تعتمد على مبدأ الشحاذة بهذا الشكل المهين الذي نراه على شاشاتنا الرمضانية، وأيضًا لا تذهب أموالها لإطعام الفقراء بل لبناء وحدات التأهيل الإنساني والعلمي من مستشفيات وجامعات ومراكز بحثية، أي إنها تعمل على توسيع نطاق العمل والحياة وليس توفير الحد الأدني من الحياة، وهذا فرق لو تعلمون عظيم. أيضًا لا أحد يتساءل قبل إغراق الشاشات بإعلانات الشحاذة لبناء مستشفيات علاج السرطان والفيروسات الخبيثة عن أسباب ظهور أمراض مثل السرطان وفيروس سي والفشل الكبدي والكلوي بنسب مرعبة، تجعل مصر تحتل المرتبة الأولى عالميًا في مستوى توطن هذه الأمراض فيها.
هذه قضية متوارية وسؤال غائب عن سياق الابتزاز العاطفي الذي يلاحقنا في الموسم الرمضاني، وغالبا ما يتناساه الجميع في غبطة الهرولة "الخيرية" بدلاً من البحث عن الأسباب الأولى لهذه الكوارث ومحاسبة المسؤولين عنها.
إن التغاضي عن الأسباب التي أدت إلى تفشي تلك الأمراض المستعصية، وزيادة أعداد العائشين تحت خط الفقر، وتركّز الثروة في أيدي قلة من الأفراد؛ هو ما يجعل "بعضنا" الآن يهلل ويفرح لأجل إنشاء مستشفى أو تسليم شحنة طعام لقرية فقيرة، متغافلين عن الغياب الفادح للدولة، منذ عقود، عن تقديم وتنفيذ رؤية اقتصادية متكاملة لإنتشال هؤلاء الذين أسقطتهم من حساباتها مرارًا، ثم بعد ذلك تأتي وتطالبهم ،تسولاً وشحاذة، بأن يفعلوا مثلما فعلت "الحاجة زينب" ويعطونها العزيز والغالي. أليس هذا عبثًا؟!
اقرأ/ي أيضًا: