تدخل علوية صبح إلى أحد المقاهي البيروتية لتكتب. تدير ظهرها إلى الشارع، وتنصرف إلى شخصياتها، إلى العوالم التي ابتكرتها علوية صبح بنفسها، ومن حولها عالم آخر لا هي منفصلة عنه تمامًا، ولا تتواصل معه كأي شخص يجلس إلى طاولة ليحتسي القهوة، وحيدًا كان أم برفقة حبيبة أو صديق.
ما يميز روايات علوية صبح هو تنوّع اللغة المستخدمة في السرد الروائي
تواظب الكاتبة اللبنانية علوية صبح على فعلي الحضور والكتابة إلى المكان نفسه، ومتى أنهت علوية صبح ما بدأته ووضعت النهاية التي ارتأتها لشخصيات الرواية، هجرت المكان إلى عودة غير مؤكدة، بالصدفة ربما، لتتواصل مع ذاتها وتسترجع بعد مضيّ الوقت الرابط الذي كان جمعها مع أبطال الكتاب وشخصياته. وخلال مرور علوية صبح بالقرب منه، قد تدخل المقهى من أجل تواصل مؤقت مع من آنسوا لفترة طويلة عزلتها. العزلة التي اختارتها مأهولةً بروّاد المقهى، هربًا من عزلة ستتضاعف إذا ما لزمت البيت الذي تعيش فيه وحدها، وقد لا تفعل فتمضي في طريقها. ومتى شرعت علوية صبح بكتابة عمل آخر، اختارت مقهى آخر، لتعيش فيه ومعه تجربةً أخرى، ويكون بدوره مؤقتًا، تنقطع "في المبدأ" عنه تمامًا، متى تخضب بياض أوراقها بنهاية أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: ربيع جابر.. الفتنة البيروتية
ما يميز أعمال علوية صبح، كاتبة "دنيا"، و"اسمه الغرام"، و"نوم الأيام".. هو تنوّع اللغة المستخدمة في السرد الروائي، فعلوية صبح لا تلبس اللغة نفسها لكل الشخصيات. وهي في هذا الإطار تبدو شديدة الحرص على "الديمقراطية" في التعاطي مع شخصياتها. والدليل على ذلك الحرية التي تمنحها لكل شخصيّة لجهة أسلوبها وتعابيرها وطريقة تفكيرها أيضًا. فالفرق يبدو جليًا بين اللغات التي تخطّها علوية صبح على لسان الشخصيات تبعًا لظروف كل واحدة منها ومستواها الثقافي.
تتماهى شخصيات علوية صبح لواقعيتها عند القراءة مع نماذج كثيرة في المجتمع، حتى يكاد كل قارئ يجدها في محيطه، وفي نفسه في بعض الأحيان، لأنها نابضة بمشاعرها، وحيّة بأوجاعها، وكثيرة الشفافية في تعبيرها عن مكنوناتها وذلك لغاية في نفس صبح تختصر بـ"النطق بلسان المكمومات".
ومع أن علوية صبح تعرض مشاكل المرأة وآلامها والمصاعب التي تواجهها بكثير من الجرأة والصراحة، إلا أنها تؤكد في تصريحاتها بأنها "ليست نسوية راديكالية"، وهي في هذا الإطار تشدد على أن "لغتها أنثوية بامتياز، لكنها مفتوحة على الآخر وعلى اللغة وعلى خلق فضاء جديد في الكتابة".
تتماهى شخصيات علوية صبح لواقعيتها عند القراءة مع نماذج كثيرة في المجتمع
تُسأل علوية صبح دومًا عن جرأتها، فتتحدث عن الكتابة كفعل حرية، فكيف تكتب من دون حرية؟ وهي في ما كتبته لم تتوانَ عن تعرية المستور الموجود أصلًا، ويراه الجميع أو البعض، فيما يغيب عن البعض الآخر دون أن يلغي احتجابُه حضورَه. وقد توصلت علوية صبح -في عملية "التعرية" بالكتابة عن هذا المستور، إلى الكشف عن ما هو أبعد من القشرة أو السطح في العلاقات الإنسانية. من هنا يمكن القول إن الجرأة في أعمالها تجد مرادفًا لها في المصارحة مع الذات، مع الشخصيات وفي ما بينها، مع القارئ ومن خلفه المجتمع المحلّي العربي وكذلك الغربي عبر الترجمات التي تنقل أعمالها إلى لغات أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: "أولاد الغيتو- اسمي آدم".. سردٌ بلغة النّار
هل يمكن تصوّر أعمال علوية صبح، التي نالت جائزة السلطان قابوس الأدبية، من دون الجرأة التي يمدحها النقاد ولا يعيبونها؟ قطعًا لا. فهي تلك الجرأة الفنية المطلوبة لخدمة العمل الروائي، الجرأة التي لا تنقص عن ما يلزم ولا تفيض عن المطلوب. وبالتالي لا يمكن مقارنة كتابات علوية صبح باللغة الفضائحية الرائجة، التي تهدف أولاً إلى الترويج للكتاب وتحقيق نسبة عالية من المبيعات.
في المقهى الذي تقصده علوية صبح في أحد شوارع بيروت، قد تجدها شاردةً في مكان ما، في عالم ما. وقد تجدها منفيةً تمامًا في الورق، غارقةً فيه، لا تائهة بل حاضرة بكل ما في وعيها ولاوعيها من آلام وأحلام وآمال ودموع وابتسامات، وكل ما في لغتها من غنى الإحساس وثراء الحروف، لتكتب بقلمها أوجاعها وأوجاع الآخرين.
اقرأ/ي أيضًا: