رواية "على خط جرينتش" (دار العين، 2019) للروائي المصري شادي لويس، واحدة من الروايات البليغة نقديًا التي قرأتها مؤخرًا، والتي تنجح في تشخيص مجموعة من الحالات الاجتماعية المرتبطة بالهجرة واللجوء والشتات في وقتنا الحاضر.
يحوّل الكاتب "غياث" من جثة منسية، إلى رمزٍ يجسِّد به مجموعة قضايا كانت قد تصدرت نشرات الأخبار العالمية خلال السنوات العشر الماضية
من وجهة نظرٍ نسوية ما بعد كولونيالية، يمكن القول بأن بلاغة الرواية تتأصل في قدرتها على وصف الهشاشة التي يعاني منها طالبو اللجوء، الذين يشتركون جميعًا في هذه الرواية، وإن بدرجاتٍ متفاوتة، في سرد حكايةٍ قائمةٍ على تجاربهم الشخصية مع الهجرة والفقد والحب، الذي يحضر في العمل، وللمفارقة، من خلال الإشارة إلى غيابه.
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة سارة أزهر الجوهر
وبينما تحكي بعض الشخصيات عن تجربتها هذه بشكلٍ صريحٍ ومباشر، تجسِّد شخصيات أخرى هذه المعاناة من خلال هيئتها، أو تلعثمها، أو إحباطها، أو محيطها المادي، أو رسائلها غير المرسلة، أو حتى صمتها المطبق وممانعتها في تعلّم لغة جديدة خوفًا من نسيان لغتها الأم.
تُروى قصة العمل على لسان عاملٍ في المجلس المحلي في العاصمة البريطانية لندن، وتحكي عن لقاءٍ غير متوقع بين الراوي ولاجئٍ سوريٍ شاب يدعى "غياث". في الحقيقة، هو ليس لقاء غير متوقع فحسب، بل تلفّه الغرابة أيضًا، إذ يأتي بعد تلقّي الراوي اتصالًا من قريبه في مصر، أيمن، يطلب منه فيه دفن غياث ونصب دار عزاءٍ له.
تربط أيمن وأهل غياث، وهم لاجئون سوريون في مصر، علاقة جيرة بحكم سكنهم في شقته. وبفعل هذه العلاقة، يشعر أيمن بالمسؤولية تجاههم، بل وبضرورة مساعدتهم أيضًا، ولكن سرعان ما سيتحول شعوره بالمسؤولية إلى شعورٍ بالعجز، بعد معرفته بفاجعة وفاة ابنهم في المهجر أولًا، واستحالة سفرهم إليه، أو جلبه إليهم، ثانيًا.
أمام هذا المأزق، لا يلبث أيمن أن يمرر عجزه وقلقه إلى قريبه المستقر في لندن. وهنا تبدأ الحكاية؛ هل سيقوم صاحبنا بدفن هذا الغريب وإقامة جنازةٍ له؟ كيف؟ يعني: من وين لوين؟!
يستهل شادي لويس روايته "على خط جرينتش" ببداية عبقرية تصف الهجرة القسرية بشكلٍ عام، والحالة السورية بشكلٍِ خاص
تبدأ المفاوضات بين الطرفين حول طلب أيمن، حين يقوم الأخير بطرح السؤال التالي على الراوي في مطلع الرواية: "سؤال مباشر ومحتاج إجابة من كلمة واحدة، آه ولّا لأ؟". يتردد صاحبنا في الإجابة على هذا السؤال، ويبدو من سياق الرواية أن هذا التردد ليس غريبًا عنه، كما يبدو لنا أيضًا أنه محّملٌ بالفضول، وأن من يسأل هذا النوع من الأسئلة، غالبًا ما ينال مبتغاه منه. يقول الراوي: "الفضول كانت رميته الرابحة"، ويضيف: "لم يكن أمين سيخبرني بحكاية المرحوم... كان يعرف أن نقطة ضعفي هي الفضول، واستغلها بكل نذالة".
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: 50 قصيدة من الشعر الأمريكي
صحيح أن الراوي شخصٌ فضولي، ولكن فضوله انتفائي ويفتقر في كثيرٍ من الأحيان إلى الشجاعة. فعلي سبيل المثال، لم يسعفه فضوله لفهم السبب الحقيقي لفظاظة "كايودي" مع السيدة "أ"، حينما أخبرها بأنها غير مؤهلة لاستحقاق نزلٍ كريم؟ هل هي بيروقراطية المؤسسة وجمودها؟ أم مزاج كايودي الانتقامي من السيدة "أ"، والذي تولّد عنده بعد أن نعتته بـ "العبد"، ظنًا منها بأنه لا يعي عربيتها؟ هو ليس فضولًا انتقائيًا تمامًا، وإنما فضول "مقهور" يتحول غالبًا إلى مونولوج صامت، وكأن صاحبنا يعلم إجابات أسئلته، فلا يقوم بطرحها من الأساس.
يبدو هذا التحليل عن الفضول خطيرًا، لأنه يخلص بنا إلى القول بأن ما دفع صاحبنا للموافقة على طلب أيمن، هو الرغبة وليس الفضول. صحيحٌ أننا لا نستطيع الفصل بين الفضول والرغبة تمامًا، حيث إن الفضول سمة من يتملك الرغبة بالمعرفة، لكن ما أود الإشارة إليه هنا، هو الرغبة التي تقوم على الإرادة، تلك التي تجلت في اهتمام الراوي بمظهره يوم الدفن أولًا – رغم أنه لا يأبه بشأن مظهره الرسمي عادةً – وفي قلقه بشأن منشور الفيسبوك الذي، أعلن به عن موعد الدفن الذي أراد له أن يكون مزدحمًا بالمعزين الذين شاهدوا منشوره.
يستهل الكاتب روايته ببداية عبقرية تصف الهجرة القسرية بشكلٍ عام، والحالة السورية بشكلٍِ خاص. وبلغةٍ ساخرة، يستغرب الراوي من حياة غياث المملة على حد تعبيره. لا أعرف تمامًا ما هي مقومات هذا الملل، هل هو تكرار المصائب التي غطس بها غياث عند كل عبور، الأمر الذي أفقد كل مصيبة خصوصيتها؟ أم هو تواتر المصائب المتسارع الذي جعل كل مصيبة تبدو وكأنها مقتضبة، وهو ما أفرغها من أثر الزمن؟ أم هي حتميةُ تراتبية هذه الأحداث وافتقادها لعنصر المفاجأة باعتبارها ترتبط بحقيقة أن غياث لاجئًا؟
بفصاحة منقطعة النظير، ولا أبالغ حين أقول "فصاحة مجنونة"، يحوّل الكاتب "غياث" من جثة منسية، إلى رمز يجسِّد به مجموعة قضايا كانت قد تصدرت نشرات الأخبار العالمية على مدار السنوات العشر الماضية. ومن سطور النشرة الإخبارية إلى سطور الرواية، يتحول اللاجئ من كونه خبرًا عاجلًا، أو ضحية، أو جثة هامدة على شاطئ جزيرة بعيدة، إلى كونه قصة إنسانية ذات ارتباط شخصي جدًا، فمن منا قد يُسأل عن دفن أحدهم إلّا إذا كان قريبًا حميمًا؟
عبر أقسام الرواية الثمانية، يتلاعب الكاتب بالوقت فنجد أن أحداث الرواية تتصاعد في خطوطٍ زمنية متعددة، وكأنما الراوي مسافر عبر الزمن. مثلًا، لو افترضنا جدلًا أن الأصل في تصاعد الأحداث، هو أن يُزامن الخط الزمني المتَّبع إجرائيًا لعملية الدفن، لتصاعدت الأحداث خلال مدة تتراوح بين ثلاثة أيام أو سبعة كحدٍ أقصى. لكن منظور الكاتب للزمن يختلف باختلاف المرحلة من ذاك الإجراء، وإشارته للزمن ترتبط باستحضاره لشخوص من ذاكرته القريبة والبعيدة، أحياء وأموات، أقرباء وغرباء، أحبّاء وغير ذلك.
وفي مقدمة كل جزءٍ من أجزاء العمل، تسحبنا آلة الزمن إلى موقع وشخص يحددان إحداثيات الرواية. وسواء أخذتنا آلة الزمن إلى "طانيوس" ابن خالة أمه في إيطاليا، أو السيدة "أ" المهاجرة الكردية في لندن، أو "بديعة" جدته في القرية حيث الحياة المصرية كما نعرفها في أفلام الأبيض والأسود، أو "نايل" ابن خالته هيلينا الذي فُقد في الحرب العالمية الأولى، وحتى "آدم" صديقه شهيد الزواج الفاشل؛ فإن الراوي يعرّف، في كل رحلة، حدثًا معاصرًا أو تاريخيًا عبر جملة علاقاتٍ تربطه، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بالشخصية والمكان.
يمكن هنا وصف كتابة الرواية بأنها عمل "كارتوغرافي"، لا سيما وأن شادي لويس، من خلال أسفاره وجولاته المتعددة، يعيد رسم أجزاءٍ مهمشة من العالم، متحديًا بذلك المركزية الأوروبية التي أشار إليها كايودي حين قال: "هل تعرف أنني في لاجوس درست الجغرافيا في الجامعة! وكان الشيء الوحيد الذي أردت أن أراه في لندن هو الزمن، الخط الرفيع الذي يختفي فيه، وتبتلع فيه الدقائق نفسها".
يفتخر صاحبنا بأنه يعيش على بعد ٢٠ دقيقة من خط جرينتش، لكن هذا لا يغيّر من فهمه العميق لتاريخه: خط غرينتش أداة استعمارية وظفتها إنجلترا في العصور الوسطى لفرض هيمنتها على جغرافيات كثيرة مما يشار إليه لليوم بالجنوب. وفي هذا السياق، وبريشته الخاصة، يطفئ راوينا من ذهبية شريط خط جرينيتش، ويرش كثيرًا من الألوان وبعضًا من البريق على أجزاء أخرى من العالم، مثل مصر، وكردستان، ونيجيريا. وكأنه بهذا العمل الفني، يستنطق خط غرينتش مطالبًا إياه التكلم بلغةٍ أخرى غير الإنجليزية.
وكلما حضرت واحدة من شخصيات الرواية، تجلت شخصية الراوي أكثر. وكلما تجلت شخصيته أكثر، كشفت لنا عن هشاشةٍ جديدة كامنة فيها، أو طارئة عليها. ولغرض كتابة هذا المقال، ظنًا مني أني ربما كنت قد أضعته، قلّبت صفحات الكتاب مرةً واثنتين وثلاثة بحثًا عن اسم الراوي. أحقًا لم يُذكر!؟ في محاولتي للبحث بين سطور الرواية، كنت أحاول أن أجد اسمًا يطابق مواصفات كاتبنا: مصري، قبطي، أسمراني، شمال إفريقي، عربي...
تنجح رواية "على خط جرينتش" في تشخيص مجموعة من الحالات الاجتماعية المرتبطة بالهجرة واللجوء والشتات في وقتنا الحاضر
ربما كان اسمه مسلمًا، ربما به دلالة على اللجوء، بالتأكيد غير إنجليزي، وبالتأكيد أحسن من فلسطيني، إلخ. أتأثر لحقيقة أن صاحبنا يبقى بلا اسم. يا ترى، لماذا لا يعرفنا الراوي باسمه؟ وما الدلالة الفلسفية التي يشير إليها هذا الاختفاء؟ وكيف يمكن له أن يشهد على كل هذه القصص وهذه الأحداث، بل وأن يكون مقنعًا، ومع ذلك يبقى مجهولًا؟
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة سلمان عز الدين
تنتهي الرواية بعفوية حقيقية. أولئك الذين ألفوا العيش على هامش الحياة البريطانية المعاصرة، يعلمون بأن الأيام تتسم بلزوجة سمجة تجعل الالتزام بمخططٍ واضح أمرًا صعبًا. كان المفروض أن يقف صديقنا على دفن غياث في الموعد المحدد، فبعد كل هذا القلق الذي لف موضوع الدفن والجنازة من مناوشات مع رجل القطن، إلى حوارات طويلة مع بديعة في الأحلام، إلى منشور الفيسبوك والتكهنات حول ازدحام المكان بالمعزين، يتوقع القارئ أن صاحبنا، على الأقل، سيقف إلى حين وصول الجثمان ليطمئن على اكتمال عملية الدفن. لكن عفوية لقائه بالشخصية الأخيرة، وهو رجلٌ عراقي ستيني يقف على جنازات الغرباء، تجعل من لقاء صاحبنا بغياث ميتافيزيقي وغير ملموس، ولا يبقى لنا هنا إلا التفكّر في هذه الحكاية، التي كُتبت حول لقاءٍ لم يتم.
اقرأ/ي أيضًا: