تمرّ سوريّا بمرحلة مفصلية بما يخصّ هويّتها وهويّة أبنائها، وتعيش الثقافة الوطنية في البلاد أزمة تمايز تتجلّى في الحرب الأهلية القائمة والناجمة في بعض جوانبها عن تمايزات ثقافية وصراعات أيديولوجية، إضافة لما تتعرض له من ضغط نتيجة تقاطع وتناقض مصالح إقليمية ودولية فيها.
لم يعد الصراع في سوريا محصورًا في قطبيّة الاستبدّاد والحريّة، بل تعدّاها إلى مستويات تتعلّق بالهويّة الوطنيّة
بالعوده زمنيًا لعدّة سنوات خلت، فإن الحرب السورية بدأت سياسية على شكل حركة احتجاج شعبية ضدّ الحاكم المستبدّ، ولكن خلال زمن قصير نسبيًا بدأت العوامل الإثنية تأخذ دورًا مهمًّا في الصراع الذي لم يعد محصورًا في قطبيّة الاستبدّاد والحريّة بل تعدّاها إلى مستويات تتعلّق "بالهويّة الوطنيّة". حاول المثقّفون والمفكّرون الغوص في هذه الظاهرة والبحث في أسبابها، ولكن بغض النظر عن نتائج هذه الأبحاث يصبح الكشف النظري في هذه الأثناء للمصطلحات التي تحدّد ديناميكية هذا الصراع أو التمايز مهمّة أساسية. فلا بدّ من إعادة الصراع إلى الدائرة الفكريّة أولًا.
لنبتعد قليلًا عن الحالة النوستالجية لمفهوم الوطن كاختلاطات شعورية ولنحاول مقاربة المصطلح بشكل آخر. يأتي الاسمُ "وطن" من الفعل وطَنَ أي أقام في مكان معرّف جغرافيًا، أما كلمة "مواطن" فهي اسم الفاعل من وَاطنَ، و"واطنَه" أي شاركه سكنه أو شاركه موطنه.
ليس الأمر درسًا في اللغة العربية، بل مقاربة لغوية اجتماعية للهوية الوطنية، فالمعنى اللغوي لا يحتمل انتماءات أخرى كالإثنيّة الدينيّة أو القوميّة، بل يرتبط فقط بالمكان. هذا الارتباط هو نفعي بالدرجة الأولى ويأتي كنتيجة طبيعيّة لدوافع البقاء، بمعنى الحفاظ على النوع واستمرار الحياة، فالتواجد معًا في مكان محدّد جغرافيًا يلزم القيام بوظائف جماعيّة تعود بالنفع على المواطنين في هذا المكان بصيغ براغماتية. لا تبقى العلاقات بين المواطنين مبنيّة على هذا الأساس النفعي، بل تدخل عوامل إضافيّة كالعوامل الثقافيّة والسياسيّة، ولكن على هذه العوامل في حالاتها الجيّدة أن تُغني وتشدّ أواصر وعلائق المواطنة الأصلية.
ينتجُ عن تداخل العوامل الاجتماعيّة والثقافيّة مفاهيم بديلة للوطن كالإثنيّة والأمّة مثلًا، ومصطلح الإثنية أو الأمّة هو وعاءٌ ثقافيّ يتخلّص من بعده الجغرافي النفعي، بالمعنى المادّي، لينتقل إلى مستوى ثقافي بمعنى الهويّة. فعندما نتحدّث عن "الأمّة الإسلاميّة" أو"القوميّة الكرديّة".. إلخ، لا نلحظ البعد الجغرافي في الحديث، بل تأخذ اللغة وجملة القيم المتشارَكَة أهمّية البعد الجغرافي للوطن. يمكن اعتبار أنّ مصطلح الوطن في مفهومه الراهن مبني على عمودين اثنين؛ البعد المكاني وكان نتيجة لمعاهدة وستفاليا (1648) التي بنت حدود الدولة القوميّة على أنقاض الإمبراطوريّات وأعطت للبعد الجغرافي "الحدود" أهميّته في تعريف الوطن. بموجب هذه المعاهدة أصبح الإطار الجغرافي وليس الإثنيّ أو الثقافيّ هو الإطار الوطني العام.
تصبح المشاركة الفاعلة للأفراد في شؤون الوطن العامة عاملًا أساسيًا في الهوية الوطنية
البعد الآخر هو جملة العلائق والنّظم التي تحدّد ديناميكية وأدوار الأفراد في هذا المكان الجغرافي ضمن النظام المجتمعي نفسه بما يخدم "المصلحة الوطنية". هذه الأخيرة مرتبطة بالحالة السياسيّة والثقافيّة للمجتمع. ظهرت نظريات عديدة وتصدّى مفكّرون كُثر لعلاقة الأفراد فيما بينهم، وعلاقات السلطة، وتأثّرت بالحالة الثقافيّة والاقتصادية للمجتمعات المعنيّة في زمانها، أمثال توماس هوبز وجان جاك روسو، الذي طرح نظريّة العقد الاجتماعي، القائلة بأنّ الأفراد جميعهم متساوون في ملكية الوطن وتقرير مصيره، وهكذا تنتج سلطة من الشعب هي التي تطبّق القانون وتحتكر العنف.
بناءً على هذه الخلفيّة النظريّة تصبح المشاركة الفاعلة للأفراد في شؤون الوطن العامة عاملًا أساسيًا في الهوية الوطنية، وهنا تتوضّح أهميّة الحقوق السياسية وليس الاجتماعيّة والاقتصاديّة فقط في ممارسة المواطنة. هكذا تتراجع الهويًة الوطنيًة والمسؤولية الوطنية في المجتمعات التي تحكمها نظم استبدّادية مهما حاولت هذه النظم تعويض غياب الحقوق السياسية بأخرى اجتماعية واقتصادية، ومثالنا على ذلك النظم الاشتراكية القمعية. في ظل تغيّيب المشاركة الفاعلة التي تعطي للأفراد القيمة الذاتية والإحساس بالهوية الوطنية، يبحث الأفراد عن هويّات بديلة وتعاريف أخرى وتُستحضر الهويّات الإثنيّة لملء فراغ الانتماء القائم.
لا يمكن أن نتحدّث عن "وطن" حين تتسلّط على مقدّراته نخبة ما، سياسية، عسكرية، أو تحتكر العنف وتمنع الحقوق عن مواطنيها. فإمّا سيشارك الأفراد في صناعة السلطة وهكذا تصبح هذه السلطة شرعيّة وإمّا سيلجؤون إلى العنف الذي يتناقض مع مبادئ ومعايير الوطنية الحديثة. في هذا السياق لن تنفع أدلجة المجتمع ولن يكون مهمًّا الدرجة الثقافيّة التي يكون عليها الأفراد للحفاظ على الإطار الوطني طالما هم مغيّبون عن المشاركة في صنع القرار بكل ما يتعلّق بوطنهم.
إن أهمية فعل المشاركة تكمن بشكل أساسي في مدلوله السيكولوجي من خلال القناعة الذاتية بالتأثير والفاعلية ومحصّلته في الرضا عن النفس، وهو على الصعيد المجتمعي آلية لانتظام الطاقات في مجاريها المناسبة واستثمار لها في البناء.
اقرأ/ي أيضًا: