06-أغسطس-2015

التركي والأرمني يحاصران لاعباً من فردربريمن (Getty)

غالباً، يرفض عشاق كرة القدم السماح بزج الساحرة المستديرة في الزواريب العفنة والصفقات المشبوهة للسياسة. وهو رفضُ يدعمه أهله دائمًا بمقولة إن تحكّم السياسة في الكرة سوف يقضي عليها من دون أي شك. لكن ينبغي الابتعاد عن هذا الرأي قليلًا.. من المؤكد، بطبيعة الحال، أن كرة القدم لن تستطيع أن تسلم تمامًا من الاعتبارات والمصالح السياسية التي تتحكم بالكثير من الدول، مهما حاول البعض ادعاء العكس. لا يوتوبيا في الرياضة.

الخط الوحيد في العالم الذي يجمع أتراكًا وأرمن هو خط وسط دورتموند الألماني

الأمثلة على ذلك قد لا يمكن إحصاؤها. فعام 1934، اعتبر الفاشي الإيطالي موسوليني أن تحقيق بلاده كأس العام في ذلك العام هو "نصر للفكر الجديد". وفي فترة الحرب الباردة، خضعت أمة عريقة كرويًّا كألمانيا لأحكام السياسة، فتمثلت بمنتخبين: شرقي وغربي. أما في العالم العربي، فالحادثة الأبرز تبقى امتناع معظم قنوات التلفزة العربية عن نقل المباراة النهائية بين إيطاليا وألمانيا الغربية في مونديال 1982، بسبب قيادة حكم إسرائيلي لها.

ورغم كل الالتباسات ماضيًا وحاضرًا، ثمة من لا يزال يقف على المستطيل الأخضر ويقول: "عفا الله عما مضى". في ألمانيا اليوم، حيث يعيش الملايين من المهاجرين من شتى أصقاع هذا الكوكب، وفي بلد يوجد فيه نحو 7 ملايين مجاز بكرة القدم، سيبدو أمرًا غير مقبول، وفق "التقاليد الألمانية" والحداثة الألمانية، أن يرفض ألماني متطرف مزاملة يهودي، أو يمتنع أوكراني عن اللعب إلى جانب روسي. تجاوز الألمان كل هذا.

والحال أن بوروسيا دورتموند، أحد أنجح أندية كرة القدم الألمانية في السنوات الأخيرة، وشكل النموذج الأمثل الذي نجح في تجاوز الحواجز السياسية والمشاكل التاريخية، ليقدم مثالًا يُحتذى في التعايش السلمي بين لاعبيه على اختلاف انتماءاتهم. ومن المؤكد أن أزمة كالأزمة الأرمنية ــ التركية كانت لترخي بثقلها على ناد عربي مثلًا، لو قرر هذا النادي تأمين خدمات لاعبين أرمن وأتراك، غير أن العقلية الألمانية التي تسيّر بوروسيا دورتموند، مضافة إلى العقلية الاحترافية للاعبيه، نجحت باحتواء كل هذه العداوات، لتصبح مجرد "تاريخ على ورق".

امتنعت معظم قنوات التلفزة العربية عن نقل المباراة النهائية بين إيطاليا وألمانيا الغربية في مونديال 1982، لأن حكمها إسرائيلي

ففي الفيستفالن شتاديون، يلعب الأرميني هنريك مخيتاريان جنبًا إلى جنب مع زميليه التركي نوري شاهين، والألماني ذو الأصل التركي إيلكاي جوندوجان. ومنذ انتقاله إلى النادي عام 2013، لقي مخيتاريان ترحيبًا كبيرًا من زملائه. وعلى رأس هؤلاء، كان نوري شاهين، الذي تصدى لمحاولة البعض جره إلى سجال سياسي، مكتفيًا بمديح مهارات زميله الجديد والثناء على مستواه. ولم يكتف شاهين بذلك، بل عاد بعد عام على ترحيبه هذا ليدعم بحرارة زميله الأرميني إثر تعرضه لانتقادات حادة واتهام البعض له بأنه كان سبب خروج الفريق من نصف نهائي دوري أبطال أوروبا أمام ريال مدريد، مؤكدًا أنه لاعب من طراز عالمي وبأنه عنصر في غاية الأهمية بالنسبة للفريق.

بدوره، لعب جوندوجان دورًا في حفلة المديح هذه، فاعتبر في تصريح له في كانون الأول/ ديسمبر 2014 أن مخيتاريان "مثالُ يُحتذى بالنسبة له". التركيان كلاهما لم يتأخرا عن ترجمة أقوالهما هذه إلى أفعال، على أرض الملعب، فبدا عليهما الانسجام مع زميلهما الأرميني، بالرغم من النتائج السيئة التي حققها الفريق الموسم الماضي، والتي أدت إلى رحيل المدرب يورجن كلوب.

ولا تقل العداوة الأرمنية - التركية شأنًا عن أي عداوة تاريخية أخرى، إذ تعود جذورها إلى عام 1915 عندما ارتكبت السلطنة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى إبادة راح ضحيتها، وفقًا لاعتراف المنظمات الدولية، أكثر من مليون أرمني. وحسب ما تقول الرواية التركية فإنها كانت تتصدى للمشروع الانفصالي الذي حاول الأرمن بلورته بمساعدة الإمبراطورية الروسية، التي كانت بطبيعة الحال على عداء مع العثمانيين. وفيما تستمر تركيا الرسمية برفض الاعتراف بارتكاب الإبادة والاعتذار عنها، حتى بعد مرور قرن، يبدو أن هنالك من الأتراك والأرمن من قرر تجاوز التاريخ والمضي قدمًا في عالم ذي أولويات مختلفة.

من حق هنريك مخيتاريان بالطبع أن يحمل في قلبه ضغينة وعداوة تجاه من ارتكب مجازر إبادة بحق أبناء بلاده، ومن حق شاهين وجوندوجان أن يحذرا العدو عندما يأتي على هيئة صديق، ولكن، لا بد من إبداء الإعجاب بقدرة هؤلاء اللاعبين الثلاثة على إيلاء الأولوية لنجاحات فريقهم على حساب أي شيء آخر. قلة قليلة فقط هي من آمنت يومًا بأن خطاً واحدًا سوف يجمع التركي والأرمني. غير أن ما فرقته السياسة جمعته كرة القدم، ليس على خط مفاوضات بالطبع، بل إنه خط وسط بوروسيا دورتموند.