في مقابلة أجريتها مع السيد إيان لوستيك، في شباط/فبراير الماضي، وهو أستاذ في جامعة بنسلفانيا وناقد شهير لحل الدولتين، أخبرني أن الواقع ما بين النهر والبحر في فلسطين هو واقع دولة واحدة. أشار السيد لوستيك بوضوح إلى فشل المفاوضات، وأكد بشكل متكرر أن الأمل في تحقق حل الدولتين أصبح منفصلًا عن حل الدولتين نفسه. يعرف الجميع أن هذا الحل لم يعد ممكنًا، لكن الجميع يستفيد من الإيمان أنه لا يزال ممكنًا. هذا يشمل السلطة الفلسطينية، والحكومة الإسرائيلية، والإدارة الأمريكية، والمؤسسات الدولية التي تعمل فيما يطلق لوستيك عليه "صناعة عملية السلام". كان ذلك هو المجادلة الأساسية في كتابه الصادر قبل فترة بعنوان "paradigm Lost: From Two-State Solution to One-State Reality".
هناك سياج حديدي عال جدًا، وكاميرات مراقبة في كل مكان. إنها أشياء أساسية في خلق الامتياز الاستيطاني، لكنها قد لا تعني شيئًا عندما يتعلق الأمر بتفشي وباء
لم يمض كثير من الوقت على تلك المقابلة، لكن أشياء كثيرة تغيرت. يشهد العالم الآن جائحة غير مسبوقة مند وقت كبير. ومن المتوقع كما يرى الخبراء، أنها قد تغير من طبيعة العلاقة بين الدولة والسكان، وربما تعيد تشكيل أنماط السيطرة والإدارة. وفي كل تلك التغيرات التي طرأت وقد تطرأ على شكل السياسات العامة في العالم، ليس الصراع العربي الإسرائيلي منفصلًا.
اقرأ/ي أيضًا: ما أهمية الإنسانيات في زمن كوفيد-19؟
بدأ الأمر مع قضية العمال في إسرائيل، حيث يعمل آلاف الفلسطينيين في المدن الإسرائيلية. ورغم أنهم يتنقلون ويعملون تحت إشراف الدولة، فإنهم لا يحصلون على تأمين صحي، أو عقود أو رواتب ثابتة، أو أي ضمانات أخرى. وقد جعلهم هدا الوضع أكثر المتضررين المحتملين لتفشي الفيروس.
خلال الأيام الأولى، كان مصير العمال غامضًا. فرضت إسرائيل شروطًا على من يمكنهم العمل في فترة انتشار الوباء. على سبيل المثال، ورغم أن الكبار في السن كانوا يحصلون على تصاريح دخول بطريقة أسرع عادة، باعتبار أنهم حسب التصنيفات الإسرائيلية "أقل خطرًا" من الناحية الأمنية، فإنهم مُنعوا من العمل. بينما سُمح للشباب ومن هم بصحة جيدة، من الدخول إلى إسرائيل للعمل. كان هذا أول تأثير ربما لفيروس كورونا على الصراع بين البحر والنهر. تغير فجأة مفهوم "الفلسطيني الآمن" في السياسات العسكرية الإسرائيلية. مع انتشار الوباء، أصبحت صفة "الآمن" أضيق وأضيق، وتشمل مجموعات أقل. لقد تم طرد أي فلسطيني ارتفعت درجة حرارته، بشكل مهين خارج "جدار الفصل العنصري".
لكن ما لم تعرفه السلطات الإسرائيلية ربما، أن واقع الفصل العنصري الذي يحكم العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا يمكنه أنه ينجح في التعامل مع وباء كورونا، نتيجة التشابك الهائل بين "الكانتونات" التي تم خلقها. وبالتالي فإن رمي "الخطر" خارج الجدار ليس كافيًا.
كانت أزمة فيروس كورونا، بمثابة علامة جديدة على مجادلة السيد لوستيك. لقد انتهى حل الدولتين، والواقع الآن هو واقع الدولة الواحدة. تخضع جميع الأراضي لعدة إدارات مختلفة، لكنها في النهاية، تخضع لسلطة واحدة، يتحكم بمصيرها اليمين الإسرائيلي، الذي يبدو أنه استفاد أيضًا من انتشار فيروس كورونا، نتيجة الانشقاق المفاجئ في صفوف أحزاب الوسط.
كانت الخيارات الإسرائيلية محدودة جدًا في مواجهة فيروس كورونا. الآلية الأمنية الوحيدة التي غالبًا ما كانت تُستخدم من أجل تجنب "المخاطر المحتملة"، لم تعد فعالة. ليس بإمكان إدارة بنيامين نتنياهو إغلاق الحدود، ببساطة لأنه لا يوجد "حدود". لقد قامت إسرائيل عبر التاريخ بتحديد صارم لمعنى المواطنين، في عملية إقصاء منظم لكل من هو ليس يهودي، وهو ما تجلى في قانون القومية الذي سنته في عام 2018. لكن تحديد الحدود لم يكن بتلك السهولة. وسيكون إغلاق الحدود بمثابة تخلٍ عن المستوطنين الذين يطمئنهم "بيبي" دائمًا أنهم ليسوا مواطنين من الدرجة الثانية، وأن مصالحهم هي الأولوية. إن ضمان مسار لتنقلهم من الضفة الغربية إلى تل أبيب أو القدس، يعني عدم إمكانية إغلاق الحدود.
على الجهة المقابلة، فإن مستفيدًا آخر من وهم حل الدولتين يهتز بفعل أزمة كورونا. يبدو أن السردية التي قدمت بها السلطة الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، لم تعد مقنعة حتى بالنسبة لمؤيديها. عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع وباء، فإن دور الدولة يرتبط بالأساس بسيادتها، وبقدرتها على السيطرة على تحرك الناس وعلى الحدود، وما عدا ذلك، فإن أي إجراء يبقى بلا معنى.
تستطيع السلطة فرض منع تجول في مناطق محصورة في وسط المدن الرئيسية، وفي أحسن الأحوال في مناطق "أ"، لكنها لا تستطيع حتى الوصول إلى مناطق "ج" بدون تنسيق مسبق مع السلطات الإسرائيلية. تضم تلك المناطق، أكثر من 60 % من أراضي الضفة الغربية، بالإضافة إلى أكبر عدد مستوطنات إسرائيلية.
كما أن السلطة لا تستطيع تحديد من يمكنه الدخول إلى مناطق "أ" نفسها، لأن هناك عددًا من الفلسطينيين الذين يجيئون من خلال المطارات الإسرائيلية التي لا يوجد غيرها بين النهر والبحر. تسيطر إسرائيل على كل الحواجز على حدود الضفة الغربية. السلطة في رام الله لا تستطيع أيضًا منع العمال الفلسطينيين من الدخول إلى إسرائيل، أو منعهم من العودة إلى الضفة الغربية، ولا حتى من العمل في المستوطنات.
لا يمكن للحكومة الإسرائيلية أن تختبئ خلف الامتياز الذي يتيحه لها جدار الفصل العنصري، ولا خلف طرد العمال الذين يصبحون بمثابة "أجساد غير صالحة" مع أي مؤشر لزيادة بسيطة في درجة حرارتهم، مع أنهم كانوا ضروريين لإكمال العمل عندما يخاف العمال اليهود على أنفسهم من انتشار المرض. بالنسبة للسلطة الفلسطينية، فإن الاستمرار في التمسك بسردية الدولة، يبدو نوعًا من السخرية السيريالية. إنها تعرف أنها لا تستطيع فعل أي شيء، لأنها لا تدير أي شيء. وربما الدليل على ذلك، أن العمال الذين ترميهم إسرائيل خلف الجدار، أصبحوا السبب الرئيسي لتفشي المرض في الضفة الغربية.
اقرأ/ي أيضًا: جوديث بتلر.. عن التغيير في زمن كورونا
لقد استخدمت الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية سياسات عديدة لوقف تفشي الوباء. مشكلة تلك السياسات ببساطة، أنها قائمة على وهم وجود واقعين منفصلين، تتحكم بهما دولتان منفصلتان، لكن الظروف على الأرض، تقول عكس ذلك. إن هناك دولة واحدة ببساطة يسيطر عليها اليمين الإسرائيلي. الحديث عن وجود دولتين، مجرد مبرر لتسمية الأبرتهايد باسم آخر.
ما لم تعرفه السلطات الإسرائيلية ربما، أن واقع الفصل العنصري الذي يحكم العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا يمكنه أنه ينجح في التعامل مع وباء كورونا، نتيجة التشابك الهائل بين "الكانتونات" التي تم خلقها
بالنسبة لي، كشخص يعيش في منطقة "جيم" شمال غرب رام الله، على بعد عشرات الأمتار فقط عن المنازل الأولى في المستوطنة المجاورة، تبدو سياسات الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية بمثابة كوميديا سوداء. هناك سياج حديدي عال جدًا، وكاميرات مراقبة في كل مكان. إنها أشياء أساسية في خلق الامتياز الاستيطاني، لكنها قد لا تعني شيئًا عندما يتعلق الأمر بتفشي وباء.
اقرأ/ي أيضًا: