في رسالة بعثها الروائي الصديق مشهور البطران، وهو يقرأ كتابي "بلاغة الصنعة الشعرية": "لا أشك أبدًا أن هذا الكتاب كان من الممكن أن يكون مرجعًا في الشعرية لولا الذاتانية التي تصل إلى حد الإفراط. "بلاغة الصنعة الشعرية" عنوان يشير بالثقل البحثي والأكاديمي، وهو فعلًا ينحو هذا المنحى، لكن استحضار التجربة الشخصية جدًا في رأيي لم يخدم الكتاب. مثلًا أعتبر الحديث عن الملهمة هو تجربة في غاية الخصوصية بحيث لا توضع في الكتاب. ولكن عندما ننتقل إلى الجزء الرابع الذي تحدثتَ فيه عن محمود درويش وحاوي وفرجينيا وولف مدهش.. حبذا لو يستمر العمل بهذه الروحية دون تدخلك المباشر".
لو استطاع أحد أن يفسر الشعر التفسير القاطع وأجاب عنه لم يكتب أحد فيه، ولانتهى قلق السؤال
كتبتُ للصديق مشهور هذا الرد: "الذاتية ليست مثلبًا في الكتاب، فالكتاب كله تجربة ذاتية في الشعر وتلقيه وهو ليس كتابًا بحثيًا في الدرجة الأولى. لأن الشعر بحد ذاته وأسئلته ليست أسئلة علمية بالمطلق، وهي ذاتية عند كل الشعراء. وقد كتبت الكتاب لأرى الشعر، وليس لأبحث فيه".
اقرأ/ي أيضًا: الشعر روح الرفض في زمن الاستبداد
ليس من قبيل المبالغة القول: "إن كل عمل فني، وليس الشعر فقط، هو إجابة ذاتية لسؤال في الذات، لم يجد عليه المبدعون إجابات تشفي الغليل على ذلك السؤال الذي يقلق راحتهم ويدفعهم للكتابة. لذلك فالفنانون والشعراء والكتاب ينتجون أعمالهم للإجابة عن أسئلتهم الذاتية".
ولعله من الصائب أن أؤكد أن الكتّاب لا يكتبون فيما يعرفونه، بل إنهم يبحثون من خلال الكتابة عما يجهلون إجابته. فيقدمون إجاباتهم هم، ولولا ذلك القلق لم يصرّ الكتاب على الكتابة؛ لأنهم يحاولون مع كل كتابة جديدة تقديم إجابات جديدة تفتح آفاقهم نحو إجابات أخرى، دون أن ينتهي بهم المقام إلى الاستقرار أو الاطمئنان إلى إجابة قاطعة، إذ لو وجدوا إجابات قاطعة لتوقفوا عن الكتابة، لأن ذلك يعني التكرار ولا جديد إذًا. كل كتابة جديدة بهذا المعنى هي إسكات للقلق إلى حين، فإذا ما ثار من جديد، تابع الكَرّة مرة أخرى، وهكذا.
وفي حوار مع بناتي ونحن متحلقون حول مدفأة الشتاء، أخبرتهنّ عن هذا الموضوع، وعرّجت على شرح قضايا أوسع مستعينا برأي بورخيس الذي أوردته في الكتاب حول عدم القدرة على تعريف الشعر، كمذاق القهوة أو الحب أو الألوان. هي أشياء لا تُعرّف، تدرك فقط كما هي بالإحساس المباشر بالحواس التي تدركها بكيفية ما تتحكم فيها عوامل ذاتية غامضة. هكذا هو الشعر. ما هو الشعر؟ ثمة قصائد لا ينقصها الوزن ولا الصورة ولا الصواب اللغوي، لكنها لا تحرك أحاسيسنا ولا تستفزّ الدهشة فينا، بل ربما سمعنا جملة من طفل أخذتنا نحو آفاق لم نكن نتوقعها.
ثمة أمر مشابه أيضًا في مسألة إعجاز القرآن الكريم. لماذا هو القرآن معجز؟ بحثت ذلك في الكتاب أيضًا. ثمة تشابه بين الشعر والإعجاز. كل من كتبوا عن الإعجاز كتبوا عن مظاهر هذا الإعجاز، أما ما هو الإعجاز وما هو كنهه لم أجد أحدًا تحدث عن ذلك. كلهم شرحوا المظاهر، ولكنهم لم يدخلوا إلى عمق الظاهرة ذاتها. ما الذي جعل العرب مشدوهين حيال القرآن؟ كثيرا ما أعادوا علينا مثلًا قول الوليد بن المغيرة في القرآن: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه". هذا حديث عن الأثر الذي تركه القرآن في نفوس العرب. أما ما هو ذلك الشيء الذي جعل القرآن يترك هذا الأثر. إنه الإعجاز. لكن ما هو الإعجاز؟ لا أحد يستطيع الإجابة عن ذلك. هو شيء غامض تدركه الحواس والعقول، تستشعر رهبته، تدرك عظمته. لكن ليس لها القدرة على تفكيك كنهه أو النفاذ إلى أعماقه.
هكذا هو الشعر بالضبط، اللغة هي اللغة، والأساليب هي الأساليب، والوزن هو الوزن، ولكن ثمة شعر مدهش تحس وأنت تقرأه أنك تقرأ نصًا معجزًا أو شبيها بالإعجاز. وعلى العموم هذا هو الأدب، ثمة كيمياء غامضة تجعله لافتًا للنظر ومدهشا وجالبًا للمتعة العقلية والروحية. إذًا لقد كان هذا هو السؤال الذي أرّقني، وما زال يؤرقني، وأنا أكتب تفاصيل تلك البلاغة من الصنعة الشعرية؛ كيف يحدث الشعر على نحو معجز وإبداعي وممتع؟ كان سؤالًا ذاتيًا، والإجابة ذاتية، ولا شيء غير ذاتي في الشعر. حتى والناقد يحلل القصائد يبحث عن إجابته الذاتية، ويحاول الدوران حول الظاهرة لعله ينفذ إلى أعماقها، ولا أظنه استطاع أن ينفذ. أكاد أجزم أنه سر، بل لغز لا يستطيع أحد أن يفكك طلسمه المعقد، أو يسبر كنهه. إنما هي محاولات للوصف الخارجي، تعمل على القشور دون اللب، تتناول الأفكار والألفاظ، ولكن الشعر ليس أفكارًا وحسب، ولا ألفاظًا فقط، وليس أيضا أفكارًا وألفاظًا دون ذلك الغامض غير المدرك الذي يجعل ذلك التركيب شعرًا، يستحقّ أن يُقرأ.
لقد وقفت أمام ظاهرة الشعر، وآراء الشعراء والنقاد فيه، وتوصلت إلى حقيقة تقول: لو استطاع أحد أن يفسره التفسير القاطع وأجاب عنه لم يكتب أحد فيه، ولانتهى قلق السؤال. وهنا أستحضر قول الكاتبة اللبنانية علوية صبح: "لم أكتب مرة وأنا أشعر أنني أكتب لأني أعرف، بل أكتب لأفهم وأكتشف". لم أكن أعرف الشعر، فكتبت ما كتبت في بلاغة الصنعة الشعرية، اكتشفت أشياء كثيرة وحقائق كثيرة في هذه الرحلة المرهقة التي امتدت لأكثر من عشر سنوات كما يقول صديقي مشهور البطران فيما كتبه على الفيسبوك بعد أن توغل أكثر في قراءة الكتاب. ولكنني لم أدرك ما هو الشعر، وكل ما خرجت به هو أن أنني فهمت بعضًا من ظواهره فقط أكثر من ذي قبل. ولم أدرك كنهه.
علوية صبح: "لم أكتب مرة وأنا أشعر أنني أكتب لأني أعرف، بل أكتب لأفهم وأكتشف"
تقودني هذه المسألة لمسألة أخرى، تخص المنهجية التي اتبعتها في التأليف. عندما أخبرت صديقة لي عن الكتاب، سألتني مباشرة عن منهجية التأليف. لم يكن السؤال صادمًا، أو مربكًا، لكنه لم يكن متوقعًا بالنسبة لي. فالسؤال القلق في البحث عن الشعر وذاتيته لا تجعلني أتبع منهجية التأليف المتبعة عادة في تأليف الأبحاث العلمية، سواء المنهج الوصفي أو التحليلي أو المنهج التاريخي أو التأويلية أو غير ذلك من المنهجيات. كل ما في الأمر أنني اتبعت منهجي الخاص في محاولة البحث عن إجابتي عن سؤال الشعر. ربما ستقول إن الكتاب لا بد له من منهجية يسير عليها، وربما يكون معها حق في ذلك، وربما لا؛ لأنها لم تدرك بعدُ هذا السؤالَ "كيف يحدث الشعر؟" الذي ألّفت من أجله "بلاغة الصنعة الشعرية" لعدم قراءتها الكتاب.
اقرأ/ي أيضًا: نهاية الشعر العربي
آمل أن أكون قد استطعت التخفيف من حدة القلق في السؤال الذاتي عبر هذه الفصول وهذه القضايا التي ناقشتُها في الكتاب. أظن أن المسألة ليست سهلة، والكتاب ابن لعقلية مؤلفه وإجابة غير قاطعة للأسئلة التي أربكته، ويبقى القلق حاضرًا ولن ينتهي إلى أن يشاء الله.
اقرأ/ي أيضًا: