المتأمل في التاريخ والمتفحص لجذور التشريع الفلسفي والنظريات الإنسانية العامة، يصادف بالضرورة الأهمية التي يكتسبها الفرد "الإنسان" في عمق هذه التأصيلات المعرفية، والتي تنادي بأحقيته في اكتساب خصائص الحياة المختلفة، وكذا التنوع البيولوجي من خلال عملية الإنجاب الضرورية لاستمرارية تواجده في الحياة، هذه الأساليب والخصائص المشكّلة للبنية وهيكل الحياة هي أمر معقد لاشتراكها مع أصناف وكائنات حية أخرى، لذلك يسعى الإنسان إلى ميزة التفرد من خلال الميكانزمات العقلية والنفسية التي تقوم بدورها في رسم معالم وخطوط فاصلة بينه وبين الكائنات المشابهة له في العمليات الحياتية المختلفة، فالميزة الأساسية التي يحظى بها الإنسان عن غيرة هي فلسفة الرغبة. بالرغم من أن المدارت المشتركة وفواصل الالتقاء بين أشباه الإنسان المتمثلة في الخلق الإلهي الآخر كثيرة، إلا أن البنية التي يتحتم من خلالها الوجود هي جوهر الاستمرارية والبقاء الوظيفي والنفسي.
الميزة الأساسية التي يحظى بها الإنسان عن غيرة من الكائنات هي فلسفة الرغبة
الإشكالات التي تفرض نفسها علينا وتدفعنا إلى طرح التساؤل المعرفي، هي في حقيقة الأمر ناتجة من الزخم النظري والفلسفي الذي أسّس لفكرة ماهية الإنسان، وضرورة تواجده في هذه المحافل الحضارية التي لا بد له من أن يكون على قدر لا بأس به من الصراع والتدافع الوجودي، لكي يثبت جدراتة واستحقاقيته حتى يتوسم بشعار الإنسان، المقاربة هنا لمعالجة الإشكال هي صيغة ومعادلة صعبة ومعقدة التركيب ولا نسعى نحن لتأسيسها والتنظير، بل محاولة لإعطاء نظرة تفهمية للإبهامات التي تشوبها وتلتصق بها.
اقرأ/ي أيضًا: مشهدنا الثّقافي.. سلطة الرداءة
لا توجد، وبأسلوب النفي القطعي، محاولة صريحة وجادة محلية لفهم كينونة الإنسان من منطلقية الذات وصولًا الى الواقع، فهناك الكثير من المحاولات الوصفية الهزلية لطبيعة الفرد داخل المجتمع، بعيدًا عن الأبعاد الشخصية والنفسية للفرد، فالسوسيولوجيا العربية مثلًا اقتصر وضعها على الرؤية الفوقية للممارسات الإنسانية داخل النسيج الاجتماعي، واهتمت بالكليات متغاضية الطرف عن الأهيمة القصوى للمنظور الميكروسوسيولوجي الذي يهتم بتحليل الجزئيات، التي ينشط فيها الفاعل الإجتماعي داخل هذا النسق المركب والأشد تعقيدًا. فهذا القصور المعرفي لا تتفرد به السوسيولوجية وحدها، بل والعلوم الإنسانية الأخرى التي أضحت مفتوحة الفم، مستهلكة للعلب المفهوماتية المستوردة من الحضارات الغربية، التي تختلف خصوصية مجتمعاتها مع خصوصية وأعراف المجتمعات العربية المحلية.
لذلك فإن المخرج والمنقد الوحيد في هذه الأزمة المتأصلة والمتجذرة في عمق البنية المعرفية التي تمتلكها المجتمعات المحلية هي الرؤية الفلسفية، التي هي المادة العلمية الوحيدة القادرة على إعطاء بعد محاولاتي جديد للتنظير في مجال الإنسانيات، من خلال سياقات كبرى وأخرى جزئية صغرى. من خلال عمقها التأملي، وهذا يرجع بنا لفلاسفة اليونان الذين أوضحوا خطوات تشكل المد والنشاط الإنساني عبر الكثير من الإرهاصات الفكرية، في مجال الميتافيزيقا وعلم الطبيعة والوجوديات، كون فكرة الماهية الإنسانية فكرة مقدسة يجب التعامل معها بنوع من التبجيل، لهذا النوع من الخلق لأنه يعتبر خليفة المطلق عند البعض، وأحسن ما أنتجته الطبيعة على الإطلاق عند الفريق أو الاعتبار الآخر. مرورًا بالفلسفة العربية الإسلامية التي كان لها شأن عظيم في التطور مناحي الحياة المختلفة، عبر الكم الهائل من التقديمات والشروحات حول فكرة وجودية الإنسان وعلاقته بالطبيعة، وآفاقه ومدركاته العقلية، من خلال الكثير من المحطات العلمية والوقفات الفكرية المناصرة لضرورة تحرير الفكر من أغلال المرجعية الدينية والسلطة السياسية التي ارتأت بأنها دوغماتية، تترتكز على المسلمات المطبوخة لا التي ساهموا معًا في طبخها، وصولًا إلى الفسلفة الغربية التي أظهرت قدرتها على فرض الأشياء من خلال المنطق البرغماتي، الذي حاول هو الآخر تكسير الثوابت العقائدية المثبناة في تللك الفترة، ففلسفة فريدريك نيتشه مثلًا هي فلسفة تدعو إلى موت الإله، وهي ليست بالفكرة الشنعاء التي تدفع البعض إلى إتهامه بنشر الإلحاد، إنما هي فلسفة تمجّد الإنسان الأعلى من خلال فرض نفسه وشجاعته على المنطق السائد، والعمل على تفكيك البنى التي تحد من جموحه نحو التطور، وأوجدت بذلك للإنسان مكانًا في حقيقة هذا الوجود. إنها فكرة طرح المبتغى الوصول لفهمه، وربط معانيه المتشابكة وإيصاله مع بعضها البعض، ما يعني أنها فكرة ذاتية بحثة لمعرفة: هل يوجد منطلق حقيقي في نظرتنا للإنسان واحتكاكنا المباشر معه؟ أم هي مجرد صدف عابرة أو مصلحة خالصة تفرضها علينا هذه الحتمية؟
لا تتفرد السوسيولوجيا العربية وحدها بالقصور المعرفي، بل والعلوم الإنسانية الأخرى التي أضحت مفتوحة الفم، مستهلكة للعلب المفهوماتية المستوردة من الحضارات الغربية
اقرأ/ي أيضًا: الزنزانة بين خيال الكاتب وذاكرة المعتقل
خلاصة قولي نابعة من إحساسي العميق بقدرتنا على إصلاح وتغيير الرؤية الضبابية حول ماهية الآخر، لذلك نجد الكثير من التفردات والمبادرات الشخصية في إصلاح المنظومة الذاتية العاطلة عن السير، وفق منهج مضبوط يتماشى والمعطيات المجتمعية من خلال ضرورة الحلحة الاجتماعية لفكرة الثوابث الإيديولوجية والمسلمات المتعفنة التي أمسينا عبيدًا لها، وبالتالي هي سبب في كبح العطاء المعرفي والعاطفي معًا، فتكمن هنا نقاط الضعف الواضحة تمامًا من خلال سلوكياتنا التي تصوغ عليها نوع من البلادة الفكرية والذهنية التي تلحق بنا عبر التراكمات التاريخية التي ورثها لنا السلف مع الأسف.
اقرأ/ي أيضًا: