"أنا طفلة صغيرة وربما لا أفهم بشكل جيد، لكنني أعتقد أنّ العنصرية هي معاملة البشر بطريقة مختلفة، فقط لأنهم ولدوا في الطرف الخطأ من الكوكب". بهذه اللافتة وقفت ريتا وعائلتها، ومئات من اللاجئين السوريين، في اعتصامٍ تحت المطر والبرد المقدوني، آملين أن يلفتوا انتباه العالم إلى مأساتهم الإنسانية التي أصبحت "بازارًا" تجاريًا بيت تركيا ودول الاتحاد الأوروبي.
كانت ريتا الصغيرة تعلم بحدس الأطفال أنهُ ما من نهاية للهروب، وما من نهاية للخسارات التي تتوالى
ريتا، ابنة أختي، حينما تتحدثُ معي عن وضعهم على الحدود المقدونية تتحدث بألمٍ ووعي أكبر مما كُتب على لافتتها تلك. كبرت هذه الطفلة في الحرب، وكان وعيها أكبر من سنواتها التي كان ينبغي لها أن تقضيها في المدرسة واللعب والضحك، لا في التنقل والنزوح والبكاء، والتشرد من حدود دولة إلى أخرى، على مدار خمسة أعوام.
اقرأ/ي أيضًا: أي مصير للسوريين العالقين في اليونان؟!
لا أقول إن معاناة ريتا تختلف عن غيرها من آلاف الأطفال السوريين، إنما أشير إلى حساسية هذه الطفلة العالية جدًا تجاه مفاهيم الخسارة التي ابتُلي بها السوريون. ريتا الجميلة والذكية عاشت تجربة النزوح أربعة مرات خلال سنوات عمرها التي لم تتجاوز الاثني عشر ربيعًا.
في المرة الأولى، نزحت مع عائلتها من مدينة حلب إلى مدينة كوباني (عين العرب)، وكانت تلك التجربة أولى إدراكاتها لمفهوم الخسارة، خسارتها للمكان الأول الذي عاشت وكبرت فيه، وللمدرسة والبيت والأصدقاء والحي والجيران. فضاء المكان الذي ولدت فيه خسرتهُ دفعة واحدة دون أملٍ بالعودة إليه مرة ثانية.
خلال النزوح الأول كانت ريتا دائمة التذمر والحزن، حيث لم تتأقلم على معنى الخسارة بهذه القسوة الظاهرة، ولم يمض وقت طويل حتى غادرت عائلتها إلى تركيا هربًا من تنظيم داعش الذي اجتاح كوباني (عين العرب) بين ليلة وضحاها.
دخلت كلاجئة هذه المرة إلى بلد غريب، لا تقاطعات بينه وبين مدنها الأولى. كانت خسارتها هذه المرة أشد قسوة على سنواتها الغضة، خاصة حينما عرفت أن عائلتها بصدد النزوح والهروب الثالث هذه المرة لكردستان العراق. حيث ستبحث أسرتها عن الاستقرار هناك. رفضت ريتا كطفلة هذه المرة الإقرار بالخسارة، كما رفضت المغادرة وأعلنت أنها ستبقى معي في تركيا. لم تفلح كل محاولات عائلتها بإقناعها بأنها ستكون المرة الأخيرة لتغيير المكان والأصدقاء والبيت. كانت تعلم بحدس الأطفال النقي أنهُ ما من نهاية لهذا الهروب، وما من نهاية للخسارات التي تتوالى عليها وعلى أسرتها منذ سنوات.
تصدق ريتا كل الخزعبلات والأكاذيب التي كنا نرددها على مسامعها عن الدول التي تحترم حقوق الإنسان
بقيت ريتا حتى ساعة متأخرة من الليل تبكي بحضني تطلب مني إبقاءها معي. حاولت بكل الوسائل إقناعها أنها المرة الأخيرة، وستعيش هناك في بيت، وستذهب إلى المدرسة، وسيكون لها أصدقاء جدد. لكنها كانت تبكي وتردد بغصة: دائمًا.. دائمًا كنتم تقولون لي هذا.. حينما خرجنا من حلب أيضًا قلتم لي هذه المرة الأخيرة.
اقرأ/ي أيضًا: مقدونيا.. بوابة أوروبا المغلقة أمام السوريين
ريتا محقة، كنا نكذب، وهي لم تكن قادرة كطفلة على تقبل خساراتها تلك، وظلت تردد في أذني أن حياتها في خراب منذ نزوحها الأول من مدينتها حلب، وأن حياتها السابقة لن تعود أبدًا، وهو ما ذكرني بقصيدة كفافيس "ما دمت قد خربت حياتك هنا، فهي خراب أينما كنت في الوجود".
ومما زاد في بؤس هذه الطفلة أن عائلتها بقيت عالقة على الحدود بين العراق وتركيا لأيام طويلة، قضوها في مسجد حدودي صغير، عاشوا هناك أشد معاني القهر والبؤس والنزوح، خاصة أنها كانت فترة عيد، حاولنا مرارًا الاتصال بعائلتها والتحدث معها، وكانت ترفض بعنادٍ الحديث مع أحد، وتبكي باستمرار من فكرة أن هناك من أتى إلى المسجد ليتبرع للأطفال بالسكاكر وحلوى العيد. كطفلة صغيرة كانت ترفض بكبرياءٍ غريب أن تتحول إلى لاجئة بعد أن كانت طفلة عائلتها المدللة، التي تعيش بأمانٍ ورفاهية حياتها.
وكما في المرات السابقة، لم تمض فترة طويلة من وصول عائلتها إلى هناك حتى غادرت ريتا كردستان العراق باتجاه ألمانيا، حيث لا أمل يلوح بقرب انتهاء الحرب في سوريا. كانت ألمانيا لعائلتها، كما غيرها، السبيل الأخير للنجاة والعودة لعيش حياة طبيعية، وكان هذا الرحيل الوحيد الذي كانت ريتا راضية عنه كطفلة، إذ إنها كانت ستكون بالقرب منا نحن عائلة والدتها، وستعود إلى المدرسة والدراسة التي خسرتها حينما نزحت من حلب في المرة الأولى، رغبة ريتا بألمانيا كانت نابعة من إصرارها على العودة إلى طفولتها التي خسرتها بالنزوح واللجوء منذ خمسة أعوام.
ذلك الحماس الذي لا تزال تحدثني به وهي لا تزال عالقة على الحدود المقدونية، ينبع من الأمل بأن تعود لطفولتها وتنسى تلك الخسارات. رغم كل معاناتها، والبؤس الذي تعيشهُ اليوم في المخيم على الحدود المقدونية، إلا أنها لا تزالُ ترسلُ لي صورها مبتسمة، ربما لأنها تصدق كل الخزعبلات والأكاذيب التي كنا نرددها على مسامعها عن الدول التي تحترم حقوق الإنسان. ولا يزال يحدوها الأمل بوصولها إلى ألمانيا حيثُ نحن، وحيثُ يمكنها العودة إلى المدرسة حلمها الأكبر.
اقرأ/ي أيضًا: