منذ دخول السلطة الفلسطينية إلى جزء من الأراضي الفلسطينية على خلفية اتفاقية أوسلو عام 1993، أبقى الجهاز القضائي الفلسطيني على سريان أحكام قانون العقوبات الأردني رقم (16) لعام 1960 وتعديلاته. الأمر الذي جعل كل ما يتعلق بالثورة المعلوماتية من أحكام وقوانين وعقوبات متخلفًا، وظلت هذه المساحة منفلتة، لا يوجد ما ينظمها.
تضمن قانون الجرائم الإلكترونية في الضفة الغربية، على عدد كبير من الانتهاكات الحقوقية البارزة، وهو ما أثار مخاوف من أنه سُيستخدم بشكل واسع من أجل ملاحقة المعارضين
في شهر حزيران/يونيو 2017 تفاجأت شريحة كبيرة من المجتمع الفلسطيني بإصدار الرئيس محمود عباس لقرار قانون رقم (16) لعام 2017 بشأن الجرائم الإلكترونية، ضاربًا بعرض الحائط جميع المواد الدستورية التي تؤكد على وجوب مرور القانون على المجلس التشريعي، ومناقشته مع مؤسسات المجتمع المحلي والمعنيين فيه من صحفيين وكتّاب والعاملين في المجال.
قانون طارئ!
منذ عام 2009 انتهت المدة الدستورية لرئاسة محمود عباس، وكذلك المجلس التشريعي، ولأن القرارات والقوانين الدستورية يجب أن تمر بموافقة الأخير ومن خلال إجراءات قانونية متعارف عليها، أصبح عباس يستعيض عن وجود المجلس بإصدار قرارات بقانون، مستندًا إلى المادة 43 من القانون الأساسي الفلسطيني، التي تنص على أنّه في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير وفي غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، يجوز للرئيس إصدار قرارات تكون لها قوة القانون، على أن تعرض على المجلس التشريعي في أول جلسة ينعقد فيها.
اقرأ/ي أيضًا: محمود عباس.. أن تقف ضد نفسك
إلا أن عباس وبسبب تعطيل المجلس التشريعي لسنوات طويلة وتراجع المستوى العام لحقوق الإنسان في الضفة الغربية وقطاع غزة، توسع في استخدام هذه الميزة، حتى في الحالات غير الضرورية، ما جعل عدد القرارات بقانون تصل إلى ما يقارب 200 قرار، 20% منها فقط ينطبق عليها حالة الضرورة بحسب عمار دويك، المدير العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان.
انتهاكات حقوق الإنسان البارزة في القانون
تضمن قانون الجرائم الإلكترونية، حسب اعتراضات تداولها ناشطون ومحتجون، على عدد كبير من الانتهاكات الحقوقية البارزة، وهو ما أثار مخاوف من أنه سُيستخدم بشكل واسع من أجل ملاحقة المعارضين.
- لغة فضفاضة ونصوص غامضة
"الآداب العامة"، "سلامة الدولة"، "النعرات العنصرية"، "الأمن القومي"، "السلم الأهلي"، "النظام العام"، "سلامة المجتمع وأمنه"، "الإضرار بالوحدة الوطنية". وردت جميع هذه الكلمات في بنود القانون البالغة 61 بندًا، دون أي توضيح أو تحديد لما تعنيه، ولا الحالات التي تنطبق عليها العقوبات.
في الأصل القانوني، يجب على النصوص الجنائية أن تكون واضحة وضوحًا تامًا، بحيث لا يبقى على الأجهزة الأمنية والقضائية إلا التحقق من وقوع الجناية. أما في هذه الحالة، فستتحول هذه الأجهزة القضائية والتنفيذية إلى أجهزة تأويل وتفسير، ما يترك هامشًا كبيرًا للعاملين في هذه الأجهزة للانتقاء بناء على المصالح السياسية والشخصية، كما يفتح مجال النزوات الشخصية والأهواء والظلم.
- مضاعفة العقاب
في تعليقها حول القرار بقانون رقم (16) لسنة 2017 بشأن الجرائم الإلكترونية، انتقدت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان المادة رقم 28 من القانون، والتي "تجرم كل من أنشأ موقعًا إلكترونيًا أو حسابًا إلكترونيًا أو نشر معلومات على الشبكة الإلكترونية أو إحدى وسائل تكنولوجيا المعلومات بقصد ارتكاب أي جريمة معاقب عليها بموجب أي تشريع نافذ، أو اشترك أو حرض على ارتكابها يعاقب بضعف العقوبة المنصوص عليها في ذلك التشريع".
إذ إن هذا تشديد من وجهة نظر الهيئة غير مفهوم وغامض ولا يقترن فعليًا بالضرر المترتب على الجريمة، بقدر ارتباطه بأداة الجريمة نفسها، فالجريمة واحدة، بصرف النظر عن أداة ارتكابها، ولا توجد ضرورة لتشديد عقوبة على جريمة واحدة عند اختلاف أداة ارتكابها.
- انتهاك الخصوصية
انتهك القرار بقانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني العديد من مستويات الخصوصية، حيث أجبر مثلًا مزودي خدمة الإنترنت والبرمجيات على الاحتفاظ بمعلومات عن المشتركين لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، كما أجبرهم على تركيب أجهزة حفظ معلومات ووصول لجميع مواد المشتركين، وهو ما يتعارض بشكل صارخ مع القوانين الدولية المتعلقة بمزودي خدمة الإنترنت. كما لم يوضح القرار طبيعة المعلومات التي من شأنه الحصول عليها، وهل تقتصر على المعلومات الأساسية للفرد أم تصل إلى المعلومات والمواد المخزنة على الأجهزة التي تستخدم شبكة الإنترنت؟
من جهة ثانية، منح القرار بقانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني صلاحية الإيقاف والتفتيش والمصادرة للنيابة العامة، وليس للقاضي كما كان في السابق، ومن جهته يستطيع النائب العام أن يمنح تصريحًا بإيقاف المشتبه به ومصادرة جميع أجهزته الإلكترونية والحصول على معلوماته للأجهزة التنفيذية، وهو ما يتعارض مع لوائح حقوق الإنسان العالمية.
- حجب المواقع الإلكترونية
في المادة (40) منح القرار بقانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني صلاحية لجهات التحري والضبط المختصة - إذا ما رصدت قيام مواقع إلكترونية مستضافة داخل الدولة أو خارجها، بوضع أية عبارات، أو أرقام، أو صور، أو أفلام، أو أية مواد دعائية، أو غيرها، من شأنها تهديد الأمن القومي، أو السلم الأهلي، أو النظام العام، أو الآداب العامة - أن تعرض محضرًا بذلك على النائب العام أو أحد مساعديه، وتطلب الإذن بحجب الموقع أو المواقع الإلكترونية، أو حجب بعض روابطها من العرض، فيما نصت الفقرة الثانية من ذات المادة على أن يقدم النائب العام أو أحد مساعديه طلب الإذن لمحكمة الصلح خلال 24 ساعة، مشفوعًا بمذكرة برأيه، وتصدر المحكمة قرارها في الطلب، في ذات يوم عرضه عليها إما بالقبول أو الرفض.
انتهك قانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني في الضفة الغربية العديد من مستويات الخصوصية، حيث أجبر مثلًا مزودي خدمة الإنترنت والبرمجيات على الاحتفاظ بمعلومات عن المشتركين لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات
وهذه المادة بحسب الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، تشكل انتهاكًا للحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في الحصول على المعلومات، وتتناقض مع المعايير الدولية، التي تعتبر استخدام الإنترنت حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، ومدخلًا أساسيًا لتحقيق التنمية المستدامة.
ردود أفعال حقوقية حول القرار
أثار القرار بقانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني الكثير من الانتقادات المحلية والدولية، ففي بيان صدر عن الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم"، طالبت الهيئة بالتوقف الفوري عن تطبيق قانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني، وإعادة نقاشه مع الجهات ذات العلاقة، وعلى رأسها المنظمات الحقوقية، ومؤسسات المجتمع المدني، والشركات مزودة خدمات الإنترنت والاتصالات، للتوصل إلى قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات يتوافق مع القانون الأساسي المعدل والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
اقرأ/ي أيضًا: توطين اللاجئين وتصفية الأونروا.. "صفقة القرن" تمهد لشطب القرار 194
كما أشارت إلى أن قانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني يحتوي على 11 تجاوزًا قانونيًا، من بينها: انتهاك الحق في الخصوصية، الشفافية، منح صفة الضبط القضائي، والحق في العلم بالقاعدة القانونية. كما انتقدت عدم تفريق القانون بين الجنايات والجنح على أنه يفتقد لأساس قانوني.
من جانبها وجهت "مؤسسة الحق الفلسطينية" رسائل إلى المقرر الخاص في الأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، ديفيد كاي، حذرت فيها من خطورة القرار على حرية الرأي والتعبير والحق في الخصوصية.
كما أوضحت المؤسسة في رسالتها أن القرار يأتي مدعوما بالعديد من التصرفات التي قامت بها السلطة كاعتقال مجموعة من الصحفيين بناء على القانون، وحجب مجموعة من المواقع الإخبارية لمجرد كونها معارضة لتوجهات السلطة الفلسطينية.
من جهتها طالبت حركة الجبهة الشعبية بوقف العمل بقانون الجرائم الإلكترونية، معتبرته اعتداءً خطيرًا على حرية الرأي والتعبير والتفافًا على نصوص القانون الأساسي الفلسطيني. كما ورأت الجبهة في هذا القانون مجرد أداة قمعية في يد السلطة تستعملها في تقييد من يخالفونها الرأي ويعارضون سياساتها ويتصدون لانحرافاتها وممارساتها الخاطئة.
اقرأ/ي أيضًا: