يضعك غي دو موباسان بين شخوصه وعلى مسافة أمان من الحدث. في معظم قصصه ثمة جلسة تجمع بين أصدقاء وسرعان ما ينبري أحدهم ليروي قصة ما، قصة حدثت منذ سنوات بعيدة فتكون بذلك قد وصلت إلى نهايتها والأيام طوّقت نتائجها. أبطالها إما ماتوا أو أنهم قد استوعبوا الآن مآلاتها وتعايشوا معها. يشبه الأمر كما لو أنك تشاهد فيلم "أكشن" مثيرًا وصاخبًا بالحركة والمفاجآت مع شيء من الرعب، ولكنك آمن في فراشك الدافئ، تنفعل بالأحداث وأنت، في الوقت نفسه، متيقن من أنك محصن من آثار ما يدور على الشاشة أمامك.
تتميز قصص موباسان بالانعطافات الحادة والنهايات المفاجئة، وهناك دومًا معلومة مخبوءة يتكفل كشفها بتحقيق الدهشة وإلقاء الضوء على مجريات القصة وإعطائها دلالتها العامة
يفسر البعض ذلك بأنه يعبّر في العمق عن رؤية الطبقة البرجوازية الفرنسية وقد استقرت وشعرت بالاسترخاء. العالم بالنسبة لها كامل وكل شيء على ما يرام، وإذا ما حدث أمر ما يعكر صفو الحياة ويقلق سيرها الطبيعي، فإنه يحدث في زمن محدد وسرعان ما يطوى في ثنايا الذاكرة، ليعود كل شيء إلى عهده ولتعاود الحياة سيرتها الهادئة المطمئنة.
اقرأ/ي أيضًا: صور الأب كاتبًا
ربما يكون هذا صحيحًا، وربما يكون صحيحًا أيضًا أن موباسان عاشق للحكاية متقن لفن روايتها، والحكاية لتكون كذلك لا بد أن تحدث في الماضي، ولا بد أن يعتقها الزمن ويبطل مفاعيلها ليحولها إلى مادة مشبعة بالدلالة وصالحة للروي.
ولد غي دو موباسان عام 1850، وخدم في الجيش الفرنسي إبان الحرب ضد بروسيا (المانيا) في العام 1870، ثم عمل موظفًا في إحدى الوزارات، غير أن شغفه بالأدب ظهر في وقت مبكر دون أن يستطيع روتين الوظيفة الحد منه. كتب ست روايات وبضع كتب في الرحلات والأسفار، ولكن اسمه سوف يرتبط بالقصة القصيرة (كتب نحو 300 قصة) حتى أن الكثير من النقاد والدارسين يعتبرونه واحدًا من آباء القصة القصيرة في العالم.
تتميز قصصه بالانعطافات الحادة والنهايات المفاجئة، وهناك دومًا معلومة مخبوءة يتكفل كشفها بتحقيق الدهشة وإلقاء الضوء على مجريات القصة وإعطائها دلالتها العامة. أبطاله متنوعون من مختلف الشرائح والمهن، وكثير منهم أصحاب نزوات وطباع قاسية يواجهون أقدارهم بشجاعة وقدر غير قليل من اللامبالاة.
في قصة "العم ميلون" يستضيف مزارع فرنسي عجوز جنودًا من قوات الاحتلال الألماني في مزرعته (1870 – 1871)، ومقابل سخاء المضيف وبشاشته فإن هؤلاء كانوا يخسرون كل يوم جنديًا أو أكثر.. يجدونهم مذبوحين في مكان ما من الغابة المجاورة، وفي النهاية يتبين أن القاتل ما هو إلا المزارع نفسه. كان يخرج كل يوم وينصب كمينًا لضيوفه، يقتل من يستطيع منهم قبل أن يعود إلى المزرعة ليمارس دور العميل المستكين.
وفي قصة "حيلة" نقف أمام طبيب غريب الأطوار، هو مزيج من الطرافة وخفة الظل والاستخفاف بالقيم الاجتماعية واللامبالاة إزاء تقاليد مهنته. نراه يروي لمريضته الشابة مغامرة حدثت له منذ سنوات بعيدة، يوم جاءته إحدى مريضاته ملهوفة مستغيثة، ذلك أن عشيقها توفي على فراشها وموعد عودة زوجها قد اقتربت. يروي الطبيب بتلذذ تفاصيل التمثيلية الغرائبية التي اصطنعها وجعل الزوج نفسه يؤدي دورًا فيها، وكيف أنه نجح في النهاية في إنقاذ مريضته وسمعة العشيق المتوفى. وعندما تسأله الشابة المستمعة: "ولماذا رويت لي هذه القصة المريعة؟"، يجيبها: "لأقدّم لك خدماتي وقت الحاجة!".
أما في قصة "الحارس" فنحن أمام مفهوم متطرف للشرف والاستقامة، فحارس المزرعة العجوز يردي ابن أخيه قتيلًا لأن الفتى كان يسرق الطرائد وبعض حاجيات "السيد".
نساء موباسان خليط من الضعف والاستكانة والقوة والتمرد، إنهن ضحايا تقاليد المجتمع والرجال غير المتفهمين، وهن أيضًا ذوات إرادة حديدية ولديهن حيلًا وأساليب مقاومة لا تنضب.
بطلة قصة "اعترافات امرأة" تبدأ حكايتها من كونها ضحية لقسوة زوجها وسوء ظنه، ولكنها تختتم الحكاية باعتراف صادم عن ردة فعلها، عن سلوك استمر حياة كاملة قوامه التحرر التام من كل القيود. تقول لمحدثها: "أحبني رجال كثيرون، وأنت أدرى الناس، وغالبًا ما وقعت في غرامهم.. كان الحب عندي بمثابة الحياة للروح كما أن الهواء حياة للجسد. كان الموت بالنسبة لي أفضل من حياة بلا حنان، ودون أن يفكر في الرجال دائمًا".
وتعيش بطلة قصة "الوصية" حياة ذليلة في ظل زوج جلف وسكير ومتهتك، يضربها باستمرار ويعنفها على أهون سبب، وعندما تموت تترك وصية غريبة تكشف فيها حياة موازية كانت تحياها، حياة كانت فيها امرأة أخرى تمامًا.
عرف موباسان كثيرًا من رموز المدرستين الأدبيتين السائدتين في زمانه: الواقعية والطبيعية، ولكنه خص غوستاف فلوبير بمودة وإعجاب كبيرين، بل أنه كان أحد أشد مريديه إخلاصًا، ويقول موباسان إنه تعلم من صاحب "مدام بوفاري" درسًا عظيمًا من ثلاث كلمات، أو بالأحرى من كلمة واحدة مكررة ثلاث مرات: "لا حظ ثم لاحظ ثم لاحظ". ويبدو أن القاص الشهير قد حفظ الدرس وأتقن تجسيده، إذ غدا ملاحظًا ذكيًا لمجتمعه، يستقصي طبائع الأفراد وميولهم، ويكشف مصادرها الاجتماعية والاقتصادية، مصرًا دومًا على نقد العادات البالية والقيم الزائفة وطقوس النفاق التي تستغرق حيوات كثير من البشر.
كان موباسان ملاحظًا ذكيًا لمجتمعه، يستقصي طبائع الأفراد وميولهم، ويكشف مصادرها الاجتماعية والاقتصادية، مصرًا دومًا على نقد العادات البالية والقيم الزائفة
في القصة الشهيرة "الحلية المفقودة"، تستعير الزوجة الشابة عقدًا ثمينًا من سيدة ثرية لتظهر به في إحدى الحفلات. يضيع العقد في السهرة، فتدفع الشابة وزوجها عشر سنوات من عمرهما لتسديد ثمن العقد البديل الذي قاما بشرائه وإعطائه للسيدة، ويتضح في النهاية أن العقد الأساسي كان مجرد تقليد متقن وبلا ثمن تقريبًا.
اقرأ/ي أيضًا: دينو بوتزاتي.. روائي على الحدود السائلة
عانى موباسان أعراض مرض عصبي نفسي أقعده في المصحة لشهور طويلة، ولم يطل به الأمر حتى توفي سنة 1893، عن عمر 43 سنة.
هناك الكثير من قصص موباسان مترجمة إلى العربية وموزعة بين مجموعات عدة بينها: "صانعة الكراسي"، "صديقان"، "الحلية المفقودة"، "مدام باتيست"، و"الخوف".
اقرأ/ي أيضًا: