صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "ترجمان" كتاب عالِما أنثروبولوجيا في المغرب الكبير: إرنست غلنر - كليفورد غيرتز، وهو من تأليف عالم الاجتماع العربي الجزائري لهواري عدي.
ترجم الكتاب إلى العربية نوري دريس، وراجعه شوقي الدويهي، وهو يقع في 320 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
ألف لهواري عدي هذا الكتاب بعد صلة عمل مع كليفورد غيرتز، استمرت عامًا كاملًا في "معهد الدراسات المتقدمة" ببرنستون؛ ما يضفي على مادة الكتاب ظلالًا من الواقعية والمصداقية، ويضيف تعمّقُه في قراءة فكر إرنست غلنر إحاطة بالموضوع، فلم تفقد نصوص هذين الأنثروبولوجيين الكبيرين أهميتها رغم تقدم الزمن، لأن موضوعها كان النزعات الأصيلة في المجتمعات المغاربية، مثل الإسلام واللغة والأمازيغية والسلطة. وجاءت ثالثة زوايا مثلث الفائدة المرجوّة في عرْض المؤلف مقاطع متفرقة من كتابه على طلابه وتدوينه تفاعلاتهم المهمة التي يصرح بأنه استفاد منها في تحسين النص النهائي.
يعتبر جمهورُ المهتمين بدراسة السلوك الإنساني، المغاربة منهم خصوصًا، أنغيرتز وغلنر من بين أكثر المؤلفين تأثيرًا في هذا الاختصاص، لمعرفتهما العميقة بالمغرب الكبير
يعتبر جمهورُ المهتمين بدراسة السلوك الإنساني، المغاربة منهم خصوصًا، أنغيرتز وغلنر من بين أكثر المؤلفين تأثيرًا في هذا الاختصاص، لمعرفتهما العميقة بالمغرب الكبير. وتجدِّد إعادة قراءة أعمال غيرتز وغلنر في الوقت الحالي إلقاء الضوء على دراسة التجمعات البشرية في هذه المنطقة، فالأكاديميون المغاربة، ومن ضمنهم لهواري عدي، لا يزالون يسعون إلى استكمال الأطر التحليلية في فكرهما بعد أكثر من ثلاثة عقود، بهدف إثراء مخزون معارف منطقة واسعة من شمال أفريقيا أثارت انتباه الأنثروبولوجيَّين، ولفهم رهانات مجتمعاتها المحبَطة من فشل اليوتوبيا الوطنية في التنمية والتحديث بعد الاستقلال، وهي رهانات لم تتغير للانخراط في العولمة من دون تبعية معرفية لدول الشمال، وتحسين القدرة الشرائية، وخلق فرص عمل، وبناء دولة القانون والديمقراطية، وتكريس مكانة المرأة ... وغيرها. وقد ساهمت أعمال غيرتز وغلنر بتحليل هذه الرهانات استنادًا إلى المعاينة الإمبيريقية والدراسات الميدانية، وإن شابت هذا التحليل ظلال من السوداوية المتنبِّئة بموجات عنف سوف يشهدها المغرب على غرار تلك التي شهدتها الجزائر منذ انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1988 نتيجةَ تناقضات قوة القومية النضالية التي لا تزال بلا حل.
يدعو الكاتب دول المغرب الكبير إلى التحيين الفوري للمعارف الدولية عبر الترجمة، بهدف سدّ الفجوة المعرفية التي احتلها الباحثون الأجانب حتى تحولوا إلى "مُتخصصين" في دراسة مُجتمعاتنا، وإلى عدم أسْطرة المعرفة المُنتجة في الغرب بشأن مُجتمعات العالم الثالث رغم تميزها بالمنهجية، فهي في المحصلة بناء أكاديمي لمعالجة مجتمع أجنبي بالنسبة إليها، وليست وظيفتها تطوير مجتمعاتنا فكريًّا بل تعزيز قُدراتها على إنتاج معارفها الذاتية، وبالأخص لأن بعض الأنثروبولوجيا الغربية كانت وسيلة لمعرفة المجتمعات غير الغربية، وبعضها الآخر رافق التوسع الاستعماري الأوروبي وغدا وسيلة للهيمنة عليها، وتقف كل من شخصيتَي كتابنا في ضفة من الضفتين، فغيرتز فيبريٌّ يعتقد أن للإنسانية وجوهًا عدة، أما غلنر فدوركهايميٌّ وتاريخاني يعتقد أن لها وجهًا واحدًا فقط هو الغرب.
يتألف الكتاب من عشرة فصول وخاتمة؛ يستعرض الفصل الأول أنثروبولوجيا خمسينيات القرن العشرين في المغرب الكبير، حين كانت إثنوغرافيا الفرنكوفون، وجُلُّ كتّابها من "الإثنوغرافيين العسكريين"، تزدري شعوبَه وترى فيه جزءًا من الإمبراطورية الفرنسية، وتقسِّم الإنسانية إلى مجتمعات متحضرة وأخرى متوحشة يجب حكمها بقوانين استثنائية ولو كانت تتعارض مع القانون الفرنسي، وخير من كان يمثلها مونتان وسرفييه، وهي نظرة انقطعت مع كتابات كل من: جاك بيرك الذي طور مقاربة جديدة انتقد فيها 125 عامًا من كتابات المغرب السوسيولوجية، ودعا إلى إدماج فرنسا المغربَ في حضارتها، وتحرير دول العالم الثالث من الاستعمار؛ وبيار بورديو الذي بيَّن في دراساته مجتمعَ القبائل الآثارَ السلبية للاستعمار وتدميره المجتمعات المستعمَرة ومنعها من الانخراط في الحداثة الأوروبية، وهي حداثة انتقدها فلسفيًّا في كتاباته.
ويظهر الفصل الثاني التحولَ النوعي في كتابات غلنر وغيرتز نحو زوايا كانت من التابوات قبلهما، وأهمها خوضهما الحديثَ عن الإسلام والجماعات في المغرب. وبرغم عملهما كلًّا على حدة وبخلفيات فيبر ودوركايم المتباينة، فإن نتائج أعمالهما كانت ذات صدى إيجابي لدى الباحثين الأميركيين والأوروبيين المهتمين بالمنطقة، فقد فتحا الباب أمام إشكالية بناء مؤسسات حديثة في المغرب كان مجرد ذكرها من المحرمات، فشهد غلنر نهاية نظام الحماية الفرنسية، وعاصر غيرتز عصر ما بعد الاستقلال وتوتراته، فعقد مقارنة بين مسلمي المغرب وأندونيسيا التي عمل فيها ردحًا من حياته، وتحول تفاؤل سلفه بالحركة القومية المغربية لديه إلى تشاؤم.
ويتناول الفصل الثالث مقاربة غلنر الثقافة الأمازيغية، ورأيه في أن انخراط الأمازيغ والعرب في قومية ذات أسس ثقافية عربية يشكل سلطة تستحيل مقاومتها. ويعرض الفصل المشكلات الإثنية المستوحاة من الكتابات العسكرية الفرنسية، كالمطالبة باللغة الأمازيغية في الفضاء العام والإدارة، وهي مطلب مستحدث لم يكن مطروحًا قبل الاستعمار، والحديث عن تعارض "العرب/ الأمازيغ"، و"العلماء/ الأولياء"، و"الفقه/ العرف"، معتبرًا أن "علماء الدين" سكان المدن الضمان الديني للدولة المركزية بعد أن منحهم الاستعمار وسائل تحييد خطر القبائل بالتصدي للثقافة الأمازيغية.
ويتعرض الفصل الرابع لانقسامية القبائل داخليًّا وصولًا إلى القومية خارجيًّا. و"الانقسامية" تعني امتلاك القبائل الهامشية نظامًا داخليًّا يداني ما تقدمه السلطة المركزية، وبناء عليه تُعقد التحالفات وتُفَكّ بين هذه القبائل في ما يشبه النظام السياسي "اللادولتي" القائم على التضامن بين الإخوة وأبناء العمومة ضد طرف ثالث، الذي تخضع له الجماعات عند اندلاع الصراعات التي لا يخفف وهجها سوى وجود أنساب أكثر في القبيلة المواجهة. ويعتقد غلنر أن الانقسامية بديل من الدولة المركزية بوصفها تمثلات السكان المحليين أنفسَهم، أما المنتقدون لها فكثرٌ، وتناول الفصل منها بالشرح انتقادي إمريز بيترز وعبد الله حمودي.
الجديد لدى غيرتز هو أنه يفرق بين تصوف وآخر، وإسلام وآخر، وكنيسة وأخرى، ولذلك اعتبر أن المسيحية باتت تتمثل بغريغوار الكبير أكثر منها بالمسيح، والإسلام يتمثل بالعلماء والمتصوفة أكثر منهم بالنبي محمد
وخصص لهواري عدي الفصل الخامس للحديث عن أنثروبولوجية غلنر الإسلامية المبنية على التعارض بين العلماء والأولياء، والتي شبّه فيها علماء المدن المسلمين بالبروتستانت، نظرًا إلى عدم توسيط بشر بين الناس والله، معتبرًا الأولياء أصحاب رهبانية تتنافى مع القرآن. كما أقام غلنر علاقة بين التوحيد الإبراهيمي والنظام الأفلاطوني، وهو ما لم يوافق عليه المؤلف، واعتبر غلنر أن طهرانية العلماء لا تقصي البعد الصوفي الذي يُعلي شأن الآخرة، سوى لدى الطهرانية الوهابية التي اعتبرت الصوفية وثنية. ورأى لهواري أن بإمكان البروتستانتية إطلاق العلمنة إذا تم تجاهل ما يبرر الطهرانية فيها.
وفي الفصل السادس، يرد رأي غلنر في اعتبار أن المجتمع المدني، وفق نموذج آدم فرغسون، هَزَمَ أحدَ خصميه وهو الماركسية، بينما لا يزال الخصم الآخر وهو الإسلام يقاوم على رغم الأنظمة التسلطية التي تهيمن على بلدانه، وأن الإسلام ما بعد الانقسامي لم يبنِ المجتمع المدني، ولم يستطع بناء فضاء حريات مدنية إلا أوروبا الأنوار. وفي هذا المجال، يستغرب المؤلف لجوء غلنر في فكره عن المجتمع المدني إلى فرغسون بدلًا من لوك أو مونتسكيو أو آدم سميث الذين ساهموا أكثر في الدفاع عن المجتمع المدني، كما يعتبر الممالك الأوروبية القروسطية كانت تحترم القانون فيما عُرفت معاصرتُها الملكيات الإسلامية بالطابع الشمولي للحكم، واضعًا أفكار مكيافيلّي وتوكفيل في مواجهة أفكار ابن خلدون.
ويدرس الفصل السابع الطرقية والسلفية والإسلاموية في المغرب الكبير بعيون كليفورد غيرتز المتخصص بالشأن الأندونيسي والمنتقل إلى بحث أحوال المجتمعات المغاربية، والذي اعتبر أن الحديث عن عودة الأديان ينمّ عن ضعف نظر، فهذه المجتمعات أنتجت من القرآن إسلامًا أمازيغيًّا هو إسلام الأولياء، عاقدًا مقارنة بين نمطي التصوف الأندونيسي والمغاربي. ويعتبر لهواري أن الجديد لدى غيرتز هو أنه يفرق بين تصوف وآخر، وإسلام وآخر، وكنيسة وأخرى، ولذلك اعتبر أن المسيحية باتت تتمثل بغريغوار الكبير أكثر منها بالمسيح، والإسلام يتمثل بالعلماء والمتصوفة أكثر منهم بالنبي محمد، معتبرًا النهضة التي مثّلها علال الفاسي في المغرب كانت ردة فعل ضد الصوفية ولتقوية السلطة المركزية ضد الهيمنة الأوروبية.
وتضمن الفصل الثامن مبحثًا لغويًّا قارَبَ فيه غيرتز أنثروبولوجيًّا موضوع اللغة والتبادلات اللغوية والثقافة في المغرب الكبير على وحي قراءاته كتابات بيرس وأوستن وسيرل وفيتغنشتاين اللغوية، معتبرًا أن الثقافة تنتج من مخيال يجد في اللغة العربية سنده، من حيث بنيتها اللسانية الأصيلة وحقلها الدلالي الواسع. ويعقد غيرتز بحثًا لغويًّا حول كلمة "عقل" ومشتقاتها في اللغة العربية، وكذلك "الكلمة" (parole) وحقلها الدلالي، وكلمة "صِدْق" وتفرعاتها، كما يعتبر الشعر العربي فنًّا شعبيًّا، وأن اللغة وسيلة منتجة لرموز يتم إيصالها بالكلام، معتبرًا أحقية كلام هايدغر أن الإنسان يسكن داخل لغته.
وخُصص الفصل التاسع لبحث نظرية تساوي الثقافات والقيم، والمعيار الثقافي الكوني الذي يمكّن من قياس تخلف الجماعات الإنسانية وتقدمها، ويخالف الكاتب الاعتقاد بمناسبة ثقافة واحدة لكل البشر، ويعتبر أن الأنثروبولوجيا نسبية في نهجها القومي وكونية في جوهر ما تدعو إليه، ويورد وصف غلنر لنسبية المعرفة بـ "الحماقة". ويشير الفصل إلى رأي ليفي ستروس في حيوية التمركز الإثني ووجاهته الاجتماعية النفسية، وهو خلاف رأي غيرتز. ويتطرق المؤلف إلى انتقادات غيرتز لغلنر، الأول لكتاب أولياء الأطلس، وثانيها لمقالات غلنر المسماة المجتمع المسلم، وثالثًا لكتاب المجتمع المسيحي، ثم يتطرق إلى رد غلنر عليه في مؤتمر أمستردام واتهامه غيرتز بـ "العقلاني المتعصب للأنوار".
أما الفصل العاشر (الأخير) فيتعرض لذكر الرمز والثقافة الأنثروبولوجيين لدى غيرتز، مشيرًا إلى أن الأخير اعتمد في دراسة إثنوغرافيا فكر الجماعات الاجتماعية ومخيالها على الموقف النظري الذي يَعتبر أن نشاط الفكر الإنساني يحتاج إلى مقاربة تختلفُ عن تلك التي تدرس بها الظواهر الطبيعية، وهو ما يوحي، من وجهة النظر هذه، أن غيرتز هو كانطي جديد، حينما يشير إلى أن الرمزية لا هي بتمثلات، ولا هي انعكاس لجزء من النظام الاجتماعي: إنها النظام الاجتماعي نفسه. هذا المنظور الرمزي يناقضه في الآن نفسه الموقف الشكلي لغيرتز الذي بقي مُتمسكًا بالتقسيم البارسونزي بين السيكولوجي والاجتماعي والثقافي. وهو ما يؤكد فيه وفاءه لتالكوت بارسونز الذي كان مشروعه يقوم على تمييز ثلاثة تخصصات علمية موحدة، لأهميتها في دراسة الفعل الاجتماعي: علم النفس (الذاتية)، علم الاجتماع (الاجتماعي) والأنثروبولوجيا (الثقافة).
كما يشير الفصل إلى أن الوظيفة الرمزية المنتجة لـ "الاجتماعي" هي التي تميز الإنسان عن الحيوان، فلا تجارب في الحياة اجتماعية من جهة وثقافية من جهة أخرى، وهو ما جعل غيرتز يُصنَّف ضمن "البنائيين"، الذين يرون في المجتمع مؤسسة متخيلة.
كتاب عالِما أنثروبولوجيا في المغرب الكبير عميق في موضوعه، شامل في بحوثه، متنوع في الآراء والمشارب التي أوردها، مستوفٍ لهدفه ألا وهو الإضاءة على علم وإن يكن غربيًّا في أساسه فإنه كان في العالم الإسلامي أكثر تناولًا واهتمامًا في المنطقة المبحوث فيها، وهي المغرب الكبير.