08-سبتمبر-2020

الناقد عاطف بطرس العطّار

في مقدّمة كتابه "كافكا عربيًا: أيقونة تحترق" (منشورات المتوسّط، 2019) يقول الناقد المصريّ عاطف بطرس العطّار إنّ الهدف الأساسيّ من مشروعه النقديّ هذا ليس تغطية تاريخ الترجمة والتلقّي العربيين للكاتب التشيكيّ فرانز كافكا (1883-1924)، وإنّما صياغة مُحاولة لرصد وفهم وتحليل مسارات وتطوّرات تتعلّق بالاشتباك العربيّ مع نتاج هذا الأديب وخصوصيّة موقعه، بالإضافة إلى تحليل التأويلات والقراءات العربيّة لأعمال كافكا وفهمها في سياقاتها بالتوازي مع إعادة قراءة ما يتّصل بها من تاريخ الفكر العربيّ الحديث وإشكالاته وآليات عمله، ولعل قراءة المفكّر المصريّ طه حسين (1889-1973) لإرث كافكا تُعدّ الأكثر أهميّة لاعتبارات مُختلفة أهمّها أنّها جاءت في سياق مشروعه المنبهر بالثقافة الغربيّة والساعي إلى عقلنة التراث وخلق لغة أدبية كونيّة، بالإضافة إلى مقارنته لكافكا بالشاعر العربيّ أبي العلاء المعرّي.

تعدّ قراءة طه حسين لإرث كافكا الأكثر أهميّة لأنّها جاءت في سياق مشروعه المنبهر بالثقافة الغربيّة والساعي إلى عقلنة التراث وخلق لغة أدبية كونيّة

أعاد عاطف بطرس العطّار اهتمام طه حسين بأدب فرانز كافكا إلى النقاش الذي كان شاهدًا عليه صيف 1946 في العاصمة الفرنسيّة باريس، عندما قامت الصحيفة الأسبوعيّة (Action) التابعة للحزب الشيوعيّ الفرنسيّ بطرح سؤال: هل ينبغي إحراق كافكا؟ الذي أشعل فتيلة نزاعاتٍ فكرية واسعة خلال خمسينيّات القرن الماضي بين المثقّفين الفرنسيين الذين انقسموا إلى معسكرين، رأى الأوّل في أعمال الكاتب التشيكيّ "أدب متردّ وهدّام"، بينما حاول الطرف الثاني التصدّي لهذه الرؤية ودحضها.

اقرأ/ي أيضًا: غوستاف يانوش في "كافكا قال لي".. تظهير صورة الكاتب الغامض

تابع طه حسين بشغف النقاش الذي دار في الأوساط الثقافية الفرنسيّة حول كافكا، وخرج منه بمقالة عنونها بـ"الأدب المُظلم"، تناول فيها قضيّة الأدب المُتشائم من خلال العودة إلى رموزه القدماء في الأدب العربيّ، خصوصًا أبو الطيب المتنّبي الذي عدّهُ مؤسِّسًا للتشاؤم الفلسفيّ في الأدب العربيّ، وأبي العلاء المعرّي الذي ربط بينه وبين كافكا باعتباره أحد رموز الأدب المُتشائم، بالإضافة إلى اتّهامهما التهمة ذاتها: التشاؤم والتردّي وكتابة الأدب الهدّام.

إنّ المقارنة التي عقدها الأديب المصريّ الراحل بين المعرّي باعتباره شخصية تراثية وجدليّة في الإرث العربيّ الإسلاميّ، وكافكا بصفته أديبًا أوروبيًّا يهوديًّا مُتفرِّدًا ومُثيرًا للجدل أيضًا، بالإضافة إلى أنّه علامة من علامات الأدب الحداثيّ؛ قدّمت الكاتب التشيكيّ بصفته حفيدًا أدبيًّا لصاحب "رسالة الغفران"، خاصّةً أنّ حسين يرى أنّ المعرّي: "يتّخذ من التشاؤم عقيدة وسيرة، وإذا هو يذهب في تشاؤمه المذهب نفسه الذي يذهبه كفكا المتشائم الأوروبيّ الحديث فيما كتبه بين الحربَين العالميتين؛ فيرى أنّ نفسه في جسمه، وأنّ جسمه سجين الأرض، أو قل في العالم، فأبو العلاء يُحدّثنا بأنّ الإنسان (...) فنسفه سجينة في جسمه إذًا، وجسمه سجين في هذا العالم المحدود (...) هذا الشّعور العلائي هو الذي وجده كفكا، وصوّره في كثير من آثاره تصويرًا مُشابهًا أشدّ المُشابهة لتصوير أبي العلاء في اللزوميّات، وفي الفصول والغايات".

ويقول العطّار إنّ حسين اعتقد في مقالته بوجود أشكال مُختلفة من هذا التشاؤم الذي لا يختلف، من حيث المضمون وفي العصور والآداب كافّة، لأنّه متأصّل في صميم الأزمة الإنسانيّة الوجوديّة. بجُملةٍ أخرى: "دُفع بنا إلى الوجود دون أن نُستأمر أو نُستشار، وسيُدفع بنا للموت دون أن نُستأمر أو نُستشار أيضًا، ودون فهم أو معرفة مغزى ما بين ذلك، وماذا يعقب الموت، وهذا يدفع بالإنسان لليأس وفقدان الأمل" (ص 90/91).

عاد صاحب "الأيام" إلى تناول كافكا مُجدَّدًا في مقالة ثانية حملت عنوان "فرانز كفكا"، أشار فيها إلى أزمة معقّدة انطلق منها في قراءته لأعماله وعرضه لسيرة حياته، حدَّدها في أربعة محن: الموروث الدينيّ، الأسرة عمومًا وأبيه خصوصًا، النساء، وأخيرًا المرض. وانطلاقًا منها، قدّم حسين قراءته في ثلاث أعمال أدبيّة لكافكا، هي "القضيّة" التي رآها تُعبّر عن موقف الإنسان الذي يعرف أنّه مُذنب، ولكنّه في المقابل لا يعرف طبيعة أو سبب هذا الذنب، ولا يعرف أيضًا سبيلًا للخلاص منه، وذلك في ظلّ وجود قاضٍ وقانون ومحكمة بدا أنّ الوصول إليهم مُتعذِّرًا على بطل العمل، شأنه شأن الإنسان البائس الذي أُجبر على الحياة دون أن يريدها، وعلى الموت دون أن يُريده، وهنا يشير حسين إلى إيمان البطل بوجود سلطة فائقة تتحكّم في مصيره، وأنّ سبب شقائه مرتبط أساسًا بانقطاع التواصل وغيابه بينه وبين هذه السلطة الغامضة.

يُحدِّد طه حسين خُلاصة قراءته لأعمال كافكا بثلاثة مُحاور: تعذّر إيجاد صلة بين الإنسان وربّه، وتعذّر فهم إثم الإنسان، وأخيرًا جهله بمغزى الحياة

أمّا بالنسبة إلى رواية "القصر"، رأى حسين وفقًا لعاطف بطرس العطّار أنّها تتشابه مع "القضيّة" لجهة وجود قوّة مُدبِّرة يؤمن البطل بوجودها ولكنّه يفشل في الوصول إليها أيضًا، فالقصر موجود، يدبّر أمر القرية وأحوال سكّانها، ولكنّ الاتّصال به أو مراجعته لا يبدو مُمكنًا. وفي "أمريكا"، أشار المفكّر المصريّ إلى فشل البطل في إيجاد طريقه، خاصّةً وأّنّه لا يتبيّن للقارئ أساسًا إلى أين يقلّه قطاره، وهل سيصل في النهاية إلى وجهته أم لا.

اقرأ/ي أيضًا: فرانز كافكا: هل يساعدنا الأرق على الكتابة؟

يُحدِّد حسين خُلاصة قراءته لأعمال كافكا بثلاثة مُحاور: تعذّر إيجاد صلة بين الإنسان وربّه، وتعذّر فهم إثم الإنسان – رغم اعترافه بإثمه – وأخيرًا جهله بمغزى الحياة. ويُشير هنا إلى أنّ المحاور أعلاه هي المسؤولة عن ظلاميّة وكآبة أعماله، بالإضافة إلى أنّها ما يدفع الإنسان للاستسلام ويُثبط عزيمته ويسلبه الأمل أيضًا. ولكنّه في المقابل يرى أنّ التشاؤم من "الأنشطة العقليّة للإنسان، وذلك جاز وتحتّم أن يلقى نصيبه من التعبير الأدبيّ. وكان لنا أن نعلم من تاريخ هذا الأدب أنّ التشاؤم يعمل على خصوبة العقل، ويُحصِّن من الوقوع في الزهو والخُيَلاء" (ص 96).

يُعيد عاطف بطرس العطّار افتتان عميد الأدب العربيّ بأبي العلاء المعرّي إلى جرأة الأخير في التعبير عن تشكِّكه في فكرة الوحيّ الإلهيّ والنقل النّصّيّ للرسالة، ويقول إنّهُ في مقارنته كافكا مع المعرّي فيما يخصّ موقفهما من الموروث الدينيّ، أثار حسين بشكلٍ ضمني موقفهُ الخاصّ من هذه القضايا حينما رأى أنّ كلّ من هذين الأديبين لهما فعليًّا موقفًا مُتشكِّكًا من التراث، وأنّهما رغم تطلّعهما وتعطّشهما لحالة روحانية، فقد اقترن يقينهما باستحالة وجود إلهي ينتقل إلى البشر في شكل رسالة، ممّا يعني أنّ إشكالية النقل والتراث والموروث الدينيّ التي شغلت المعرّي في القرن الحادي عشر، مثّلت عند كافكا مكوّنًا محوريًّا أيضًا.

رأى طه حسين أنّ الطريقة التي تعاملت بها عائلة كافكا مع الدين، خصوصًا والده، كانت السبب الرئيسيّ في ابتعاده عن اليهوديّة، إذ إنّه لم يعد قادرًا على الوقوف في دين آبائه، تمامًا كما هو الحال بالنسبة إلى أبي العلاء المعرّي الذي ابتعد عن التقاليد الموروثة بسبب عدم توافقها مع العقل، إلّا أنّ ذلك لم يمنع كافكا من السعي بحثًا عن صلة روحية بالخالق، والنتيجة أنّ تأثير الموروث اليهوديّ على كافكا وإبداعه الأدبيّ، شبيهًا بتأثير الموروث الإسلاميّ على المعرّي الذي يعكس تاريخ تلقّيه موقفه المُتردِّد تجاه الموروث الدينيّ، وهو الموقف الذي أدّى إلى اتّهامه بالكفر وإنكار الدين والتردّي والعدميّة.

ولكنّ المعرّي وفقًا لمؤلِّف "دعاء الكروان" لم يكن مُلحدًا، وإنّما اعتقد في عدم إمكانيّة إدراك طبيعة وحكمة الخالق الذي لا سبيل للتواصل معه، وهنا تمامًا تكمن أزمة كافكا كما فهمها حسين نفسه، أي في أنّه لا سبيل أمامه للوصول إلى سلطة عليا متسامحة ومُتجاوزة لإدراكه، وهذا يؤكّد أنّه "وبرغم امتداد الزمن الذي يفصل بين الأديبين، تؤدّي قراءة أعمالهما إلى نتائج مُتشابهة: لم يُنكر كافكا ولا المعرّي وجود خالق حكيم، ولكنّهما لم يستطيعا فهم طبيعته وحكمته. فكلاهما لم يُصدِّق الإجابات الدّينيّة المبسّطة، لأنّهما يقطعان تمامًا بعدم إمكانية حدوث النقل الإنسانيّ لحقيقة إلهيّة" (ص 135).

رأى طه حسين أنّ الطريقة التي تعاملت بها عائلة كافكا مع الدين، خصوصًا والده، كانت السبب الرئيسيّ في ابتعاده عن اليهوديّة

وتمثّل إشكاليّة التأويل الخاصّة بالنقل والتراث، بحسب عاطف بطرس العطّار، علاقة تناصّيّة مُشتركة بين التراث اليهودي، وخصوصًا الصّوفيّ "القبالاه" من ناحية وأعمال كافكا الأدبيّة من ناحية أخرى، إذ إنّ التشابه بين كتابات كافكا والتصوّف اليهوديّ كامن في استحالة التواصل مع سلطة فوقيّة متعالية.

اقرأ/ي أيضًا: الفكرة التي صنعت كافكا

ويُضيف العطّار في هذا السياق: "إن تناول أعمال لكافكا في إطار ما يُحيط بها من علاقات التّناصّ المرتبطة بعملية إنتاجها سيؤكّد أنّ الخلفيّة اليهوديّة بأبعادها التراثيّة والصّوفيّة والُهويّاتيّة والثّقافيّة كلّها تمثّل مكوّنًا أوليًّا من هذا المُحيط، أمّا علاقات التّناصّ التي تربطها بمُحيط تلقّيها عربيًّا، فمن الممكن ربطها مع إشكاليّات النقل والتراث وأسئلة النهضة، لكونها محاور رئيسيّة، يُمكن رصدها في حالة القراءة التي قدّمها طه حسين" (ص 115).

الخلاصة التي يصل إليها الناقد المصريّ هي أنّ المقارنة التي عقدها طه حسين بين كافكا باعتباره ممثِّلًا لأدب الحداثة الأوروبيّة، وأبي العلاء المعرّي بصفته شاعرًا وفيلسوفًا في عصر ازدهار الحضارة العربيّة الإسلاميّة، من شأنها توليد مساحة مُشتركة بين تراث الفكر العربيّ الإسلاميّ العقلانيّ من جهة، ومشروع الحداثة الأوروبيّة من جهةٍ أخرى، كما تولِّد أيضًا وفي هذا السياق فضاءً مُشتركًا آخر بين قضايا الفكر الإسلاميّ واليهوديّ. ويرى العطّار أنّه وعلى الرغم من المواقف المتباينة بين كافكا والمعرّي وحسين، إّلا أنّه يُمكن فهم هذه المساحات المُشتركة من خلال السؤال الإنسانيّ عن مغزى ووظيفة الموروث والتراث.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كافكا في "الكامبات"

ديك قرأ كافكا