يُقطّر محمد المنسي قنديل الزمن العربي، ويجمع الناتج في ثلاثين حكاية، ثلاثين شاهدًا دالًا على حقب تاريخنا المتتالية: زمن الفرسان، زمن الملوك، زمن الجلبان. أما الحقبة الرابعة، الممتدة إلى مشارف أيامنا هذه، فقد ترك لها العنوان الأشد قسوة: زمن الخصيان.
لا يغربل المنسي قنديل حكاياته، لا ينقيها من الخرافة والأسطرة، ذلك أن حيوات أبطاله كانت مليئة بالخرافات وتسير دومًا على حافة الأسطورة
كتاب قنديل، "لحظة تاريخ" (دار الشروق 2014)، يطارد الحكايا في أوراق المؤرخين، يختار الأكثر طرافة والأغنى بالدلالة. ثلاثون حكاية هي ثلاثون ذروة درامية، ثلاثون لحظة تكثف مسيرتنا الطويلة المترعة بالأحلام، المظللة بالخوف والملطخة بالدم.
اقرأ/ي أيضًا: هكذا لم يظهر جيل صلاح الدين!
أبطال الحكايات ملوك وخلفاء وفرسان وشعراء، ولكن هناك أيضًا المجانين والدراويش والجوعى.. وبالطبع هناك الكثير من العشاق. وهؤلاء جميعهم يتوزعون على التيمات الخالدة للحياة: الصراع على السلطة؛ السعي إلى المجد؛ الخوف من الموت؛ الحب؛ الخيانة؛ الغيرة؛ الوفاء..
لا يغربل المنسي قنديل حكاياته، لا ينقيها من الخرافة والأسطرة، ذلك أن حيوات أبطاله كانت مليئة بالخرافات وتسير دومًا على حافة الأسطورة، هناك دومًا عرّافون يكشفون المستقبل، ونبوءات لا تخطئ، ولعنات تلاحق ضحاياها حتى تنال منهم. ولكن هل تنبأ صلاح الدين بالفعل بأن عرشه سيؤول في النهاية إلى أولاد أخيه الكامل، وليس إلى واحد من أبنائه الأربعة عشرة؟ وهل كانت حقيقة أن عرافًا مغوليًا تنبأ بوراثة كتبغا لعرش مصر؟ وهل يصادق التاريخ على واقعة العرافة التي قابلت أبا جعفر المنصور وعمه عبدالله بن علي وصديقه محمد النفس الزكية، وأخبرتهم بأن هذه ستكون ليلتهم الأخيرة معًا ولن يجتمعوا بعدها أبدًا؟ وماذا يهم طالما أن هذه الوقائع لم تغير مجرى التاريخ ولم تحرف الحكايات عن مآلاتها الطبيعية؟! ثم إن الخرافة تنجح غالبًا في أن تكون عنصرًا جماليًا يضفي على الأحداث مهابة الغموض، ويمنح الشخوص ملامح الأبطال المأساويين الذين يجابهون أقدارهم المحتومة.
الصراع على السلطة، هو التيمة الأكثر تكرارًا في الكتاب، فثمة الكثير من الدماء المسفوكة والرقاب المقطوعة. يقتل المنصور عمه ثم يقتل صديقه، ليس إنفاذًا لنبوءة العرافة ولكن دفاعًا عن العرش الذي يعلو فوق الصداقة وقرابة الدم. ويقتل الرشيد وزيره البرمكي في ليلة زفافه على العباسة، ويقتل الحاكم بأمر الله وزيره برجوان ثم معلمه أبو تميم السعيد ثم المحتسب فالقاضي.. قبل أن يُقتل هو نفسه على يد ابن دواس الذي بدوره يُقتل على يد ست الملك. أما النعمان بن المنذر فيحول القتل إلى هواية ويحيطه بطقوس احتفالية.. وهذه التيمة ليست لصيقة بتاريخنا نحن فقط، إذ لم يعرف معظم البشر، ولعهود طويلة، شرعية سوى شرعية الغلبة وسيادة الأقوى.
وبالطبع فإن للحقيقة وجوهًا عديدة، وكذلك لشخوص التاريخ، حكامًا كانوا أم رعايا. فصلاح الدين الذي قتل السهروردي هو نفسه الذي قال عنه المؤرخون: "كان رحمه الله من محاسن الدنيا وغرائبها، أنجب أربعة عشر ولدًا، ومات ولم يخلف في خزائنه من الفضة والذهب إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرية، ودينارًا واحدًا ذهبيًا صوريًا، ولم يخلف ملكًا ولا عقارًا ولا بستانًا، ولا قرية، ولا مزرعة". وهارون الرشيد الذي أعمل السيف بالبرامكة هو أيضًا الذي اعتاد النزول إلى الشارع متفقدًا أحوال الناس، وهو الذي رفض أن يسلب النطافي جاريته التي استجارت بالخليفة، مخافة أن يشتكيه إلى قاضي بغداد.. وابن أبي عامر الذي أطال عمر الخلافة الأموية في الأندلس، هو نفسه الذي غدر بصبح، زوجة الخليفة الحكم بن هشام، وقتلها بأبشع طريقة يمكن تخيلها.
إلى جانب هذه القسوة هناك حكايات حب عذبة: عنترة الذي واجه جبروت النعمان من أجل مهر عبلة، المنخل اليشكري الذي دفع حياته ثمنًا لحب المتجردة، كثير وعزة، قيس ولبنى، وتلك القصة العاطفية الغريبة التي جمعت بين الزباء وقاتلها عمرو بن عدي، ثم هناك هوى، المرأة المصرية التي وقعت في غرام جندي فرنسي من عساكر بونابرت..
تحتل التغريبة الهلالية موقعًا فريدًا في الكتاب، إذ يفرد لها المؤلف فصلًا طويلًا، وخلافًا لكل الحكايات الأخرى، فهو هنا يعقب على الحكاية شرحًا وتفسيرًا وبحثًا عن الدلالات والإسقاطات. يتساءل عن سر خلود التغريبة في الوجدان العربي، وعن ملامح الأبطال الهلاليين التي ما تزال ماثلة في وجوه فلاحي المنطقة العربية، وعن مآثر أولئك الأبطال التي تسكن أحلام يقظتنا وتشكل بعضاً من لاشعورنا الجمعي.
من هو أبو زيد الهلالي ومن هو دياب بن غانم؟. لماذا يحبهما الناس حتى اليوم وإلى هذا الحد؟ من هو الزناتي خليفة في حاضرنا ولماذا لا يزال كثيرون يشمتون لمقتله؟
مع كتاب "لحظة تاريخ" نحن أمام تاريخ مكتوب بلغة الأدب وتقنياته، ويصح أيضًا أننا أمام أدب يستعير موضوعاته من التاريخ
"بعد الإسلام انتشرت قبيلة بني هلال مثل سحابة الجراد.."، هكذا يقول ابن خلدون، ولكن المؤلف يرى أن "بني هلال لم يكونوا جرادًا يحمل الشر المطلق، أو الجوع النهم، لقد كان يحدوهم شوق طاغ للعدل المفتقد، وأرادوا أن يقيموا توازنًا بين الجوع والتخمة، لعلهم يصلون إلى حافة الشبع الإنساني فوق الأرض العربية".
اقرأ/ي أيضًا: رواية "1970" لـ صنع الله إبراهيم.. لا جديد يُقال عن عبد الناصر
معظم حكايات الكتاب مكتوبة بتقنيات القصة القصيرة: هناك الوصف المدقق والسخي، وهناك العناية بصنع المشهد وشخوصه، والتلاعب بالزمن تقديمًا وتأخيرًا واستشرافًا، ثم هذه اللغة الأدبية المكثفة والمشحونة..
إننا أمام تاريخ مكتوب بلغة الأدب وتقنياته، ويصح أيضًا أننا أمام أدب يستعير موضوعاته من التاريخ.
اقرأ/ي أيضًا: