هذه ترجمة لمقالة الكاتب واللغوي الأميركي راي جاكندوف.
ما المقصود بالسؤال؟
يتوجب علينا توضيح ماهية السؤال أولًا عند السؤال عن أصول اللغة البشرية، فليس المقصود من السؤال كيفية تطور اللغة تدريجيًا عبر الزمن وصولًا إلى لغات العالم الحالية، بل كيفية تطور النوع البشري مع مرور الوقت حتى أصبحنا نحن - وليس أقرب أقربائنا: الشمبانزي وقردة البونوبو - قادرين على استعمال اللغة.
ولقد انطوى ذلك على تطور مذهل! إذ ليس ثمّة أي نظام تواصل طبيعي آخر شبيه باللّغة البشرية، حيث تتمتع اللغة البشرية بالقدرة على التعبير عن أفكار عدد غير متناهٍ من المواضيع (كالطقس، والحرب، والماضي، والمستقبل، والرياضيات، والقيل والقال، والقصص الخيالية، وحتى كيفية إصلاح الحوض)، كما يمكننا استعمالها ليس فقط من أجل إيصال المعلومات فحسب، بل من أجل الحصول على المعلومات كذلك (الأسئلة)، وإصدار الأوامر أيضًا، بالإضافة إلى احتوائها على تعبير دالّ على النفي بخلاف أي نظام تواصل حيواني آخر- بمعنى ما ليس هو كذلك(1).
وتشتمل كل اللّغات البشرية على عشرات الآلاف من الكلمات، المكوّنة من بضع عشرات من الأصوات الكلامية، ويمكن للمتحدّثين بناء عدد لا نهائي من العبارات والجمل إلى جانب مجموعة صغيرة من البادئات واللواحق، ومعاني الجمل مبنيّة من معاني الكلمات كلٍّ على حدة، وما يزال تعلّم كل طفل سويّ للنظام كاملًا من خلال سماعه من قبل الآخرين أمرًا استثنائيًا بصورة مذهلة.
إنَّ التغيّرات الكبيرة التي عرفتها اللغة لم تقتصر على حجم الدماغ فحسب وفقًا للتفكير الحالي، بل على طبيعته: أي أنماط المهام التي يمكنه القيام بها
بينما تشتمل أنظمة التواصل الحيواني على بضع عشرات كحد أقصى من النداءات المتمايزة المستعملة في التواصل حول القضايا الفورية مثل: الطعام، أو الخطر، أو التهديد، أو تحقيق السلام بعد الصراعات. كما أننا نعثر على نظائر للعديد من أشكال التواصل التي تتم عبر نظام تواصل حيوانات الشمبانزي في لغة الجسد لدى الإنسان. وأما معاني النداءات المركّبة المستعملة من قبل بعض الحيوانات (أمثال بعض الطيور المغرّدة وبعض الحيتان) فهي ليست مكوَّنة من معاني الأجزاء المكوِّنة لها (على الرغم من أنَّ ثمّة العديد من الأنواع التي لم تتم دراستها بعد)، ولم تُسفر محاولات تعليم القردة بعض نسخ اللغة البشرية رغم روعتها إلّا عن نتائج بدائيةٍ فحسب. ولذا، تعدُّ خصائص اللّغة البشرية فريدةً من نوعها في العالم الطبيعي.
كيف وصلنا إلى هنا؟ إذ تحتوي كل اللّغات الحاليّة بما فيها تلك المنسوبة إلى جماعات الصيد وجمع الثمار على العديد من الكلمات التي يمكن استعمالها للحديث عن أي شيء تعلوه الشمس، فضلًا عن التعبير بالنفي.
تبدو الأمور متشابهة بصورة أساسية كوننا نمتلك سجلات مكتوبة تعود إلى خمسة آلاف سنة أو ما يقاربها؛ إذ تتغير اللّغات تدريجيًا عبر الزمن إما بسبب التغيّرات في الثقافة والنمط السائد، أو نتيجةً للاتصال مع لغاتٍ أخرى. ولكنَّ أسلوب البناء الجوهريّ والقوة التعبيرية الخاصة باللّغة يبقيان متشابهين.
إذن السؤال هو كيف بدأت خصائص اللّغة البشرية؟ فمن الواضح أنَّه ليس من الممكن أن تكون بدايتها عبر مجموعة من رجال الكهف الجالسين سويًا والذين قرروا ابتكار اللّغة؛ فمن أجل إتمام ذلك كان لابدَّ من امتلاكهم لغةً من أجل البداية بها!
وقد يفترض الواحد منا على نحو بدهيّ أن أُسر البشرانيات(2)/القردة العليا [hominids] - أسلافنا الإنسانيين على وجه التحديد - قد بدأت بالشخير، أو النعيق، أو الصياح، ثمّ تطوَّر هذا "بطريقة ما تدريجيًا" إلى أسلوب اللّغة الذي نعهده في يومنا هذا (كانت الفرضيات من هذا القبيل منتشرةً قبل مئة وخمسين عامًا، حتى أنَّ الأكاديمية الفرنسية حظرت أبحاث أصول اللغة عام 1866!)، إذ تكمنُ الإشكالية في الـ"بطريقة ما" والـ"تدريجيًا"؛ فحيوانات الشمبانزي تشخر، وتنعق، وتصيح أيضًا.
ما الذي حدث للبشر خلال الستة ملايين عامًا أو أكثر مُذ تباعدت سلالات البشرانيات/القردة العليا [hominids] وحيوانات الشمبانزي؟ ومتى وكيف بدأ تواصل البشرانيات/القردة العليا [hominids] إلى أن اشتمل على خصائص اللّغة الحديثة؟
لا شكَّ أنَّ ثمَّة خصائص أخرى غير اللّغة تميّز البشر عن حيوانات الشمبانزي: كالأطراف السفلية الملائمة للمشي بقامة منتصبة وللجري كذلك، وتقَابُل الإبهام مع باقي الأصابع، وشعر الجسم الأقل كثافةً، والعضلات الأكثر ضعفًا، والأسنان الأكثر صغرًا، والدماغ الأكبر حجمًا. إنَّ التغيّرات الكبيرة التي عرفتها اللغة لم تقتصر على حجم الدماغ فحسب وفقًا للتفكير الحالي، بل على طبيعته: أي أنماط المهام التي يمكنه القيام بها، أو بعبارةٍ أخرى: "النظام" المُزوَّد به.
ينبني سؤال أصول اللّغة إذن على الاختلافات بين أدمغة البشر وحيوانات الشمبانزي. متى برزت هذه الاختلافات إلى حيّز الوجود، وتحت أيّ ضغوطٍ تطورية؟
ما الذي نبحثُ عنه؟
تكمنُ الصعوبة الأساسية عند دراسة تطور اللّغة في النزر اليسير جدًا للأدلة، إذ إنّ اللّغات المحكيّة لا تترك ورائها الأحافير، ولا تخبرنا الجماجم الحفرية إلّا عن الشكل والحجم الإجمالي لأدمغة البشرانيات/القردة العليا [hominids]، وليس ما كان بإمكان تلك الأدمغة القيام به. إنَّ الدليل الواقعيّ الوحيد لدينا هو شكل المجرى الصوتيّ (الفم، واللّسان، والحَلْق): إذ إنه في العصر السابق قبل الإنسان المعاصر تشريحيًا، أي قبل نحو مئة ألف سنة مضت، لم يُتِح شكل المجرى الصوتيّ للبشرانيات/القردة العليا [hominids] ذلك المدى الواسع للأصوات الكلامية المعاصرة، ولكنَّ ذلك لا يعني بالضرورة أنَّ اللّغة كانت قد بدأت حينها؛ كان بإمكان البشرانيات/القردة العليا الأوائل امتلاك أسلوب لغةٍ استخدم نطاقًا محدودًا أكثر من الحروف الساكنة والمتحرّكة، وربما كان للتغيّرات في المجرى الصوتيّ الأثر في جعل الكلام أسرع وأكثر تعبيرًا فقط، حتى أنَّ بعض العلماء يقترحون أنَّ اللّغة قد بدأت كلغة إشارة، ثمَّ تحوَّلت (تدريجيًا أو فجأةً) إلى الحاسَّة الصوتيّة تاركةً الإشارات المعاصرة كبقايا مُتخلَّفة.
إنَّ كلّ هذه المسائل وغيرها الكثير قيد البحث النشط بين علماء اللغة، وعلماء النفس، وعلماء الأحياء، والسؤال عن مدى تواجد بوادر القدرة اللغوية البشرية في الحيوانات هو سؤال مهم؛ ما مدى تشابه أنظمة تفكير البشرانيات وأشباهها/القردة المتطورة [Apes/Hominoidea] مع أنظمتنا مثلًا؟ هل تتضمن أمورًا قد تجدها البشرانيات/القردة العليا [hominids] مفيدًة للتعبيرعنها لبعضهم البعض؟ هناك شيءٌ من الإجماع بالفعل على أنَّ القدرات المكانية للبشرانيات وأشباهها/القردة المتطورة وقدرتها على التفاوض على عالمها الاجتماعي تزوِّدنا بالأسس التي يمكن أن يُبنى عليها إطار العمل التصوري للبشر.
ويتصل بالسؤال السابق سؤال آخر مؤدّاه: أيَُ النواحي اللغوية فريدة بالنسبة للّغة وأيّها تعتمد على قدرات بشرية أخرى غير مشتركة مع بقية الثدييات، فهذه المسألة تعدُّ مثيرةً للجدل بصورةٍ خاصة؛ إذ يدّعي بعض الباحثين أنَّ كلّ شيء في اللّغة مبنيٌّ بوساطة قدرات بشرية أخرى: كالقدرة على المحاكاة الصوتية، والقدرة على حفظ كميات هائلة من المعلومات (حيث إن كلٌّ مما سبق ضروري لتعلّم الكلمات)، بالإضافة إلى الرّغبة في التواصل، وفهم نوايا الآخرين ومعتقداتهم، والقدرة على التعاون. كما يبدو أنَّ الأبحاث المعاصرة تُظهر أنَّ هذه القدرات البشرية تعتبر غائبة أو أقل تطورًا لدى البشرانيات وأشباهها/القردة المتطورة [Apes/Hominoidea]، في حين يعترف باحثون آخرون بأهمية هذه العوامل، لكنهم يزعمون أنَّ هناك تغيراتٍ إضافية اقتضتها أدمغة البشرانيات/القردة العليا [hominids] وكيّفتها خصيصًا للغة.
هل حدث ذلك كلّه مرةً واحدة أم على مراحل؟
كيف حدثت هذه التغيرات؟ يزعم بعض الباحثين أنها كانت نتيجة انتقال مفاجِئ، خالقًة خلال تغيّر إحيائيّ واحد نظامًا كاملًا في الدماغ يعبِّر البشر من خلاله عن معانٍ مركّبة بوساطة مزيجٍ من الأصوات، ويميل هؤلاء الباحثون أيضًا للقول بأنَّ ثمّة نواحٍ قليلة من اللغة غير حاضرة بالفعل في الحيوانات.
بينما يعتقد باحثون آخرون أنَّ السمات الخاصة باللغة تطورت على مراحل محتملة خلال ملايين السنين من تعاقب سلالات البشرانيات/القردة العليا [hominids]؛ ففي مرحلة مبكرة، كان يمكن استخدام الأصوات لتسمية مجموعة واسعة من الأشياء والأفعال في البيئة المحيطة، بحيث يستطيع الأفراد اختراع مفردات جديدة للحديث عن أمور جديدة.
في حين كان التقدم الهام للحصول على مفردات كثيرة متمثلًا في القدرة على رقمنة الإشارات الصوتية وتحويلها إلى سلسلة من الأصوات الكلامية المنفصلة - الحروف الساكنة والمتحرّكة - بدلًا من النداءات غير محددة المعالم، وهو ما يتطلب تغيرات في الطريقة التي يتحكم بها الدماغ في المجرى الصوتيّ، وربما في الطريقة التي يفسّر فيها أيضًا الإشارات السمعية (على الرّغم من أنَّ ما سبق هو موضع خلاف كبير مجددًا).
تتغير اللّغات تدريجيًا عبر الزمن إما بسبب التغيّرات في الثقافة والنمط السائد، أو نتيجةً للاتصال مع لغاتٍ أخرى
وينتج عن هذين التغيرين نظام تواصل أحاديّ الإشارات – هو أفضل من نظام تواصل الشمبانزي، لكنه أبعد ما يكون عن اللّغة الحديثة. وتتمثل الخطوة المحتملة التالية في القدرة على صفِّ العديد من هذه "الكلمات" معًا لتكوين رسالة مبنية من معاني أجزائها - وما يزال هذا ليس بنفس تعقيد اللّغة الحديثة؛ فهو أشبه ما يكون بالنموذج البدائي "أنا طرزان، أنتِ جين"، لكنه يظل أفضل بكثير من التعابير المُفْرَدَة. والواقع أنّنا نشهد هكذا لغات بدائية في سنِّ الثانية عند الأطفال، وفي الجهود الأولى للبالغين أثناء تعلّم لغة أجنبية، وفي اللّغات الهجينة كذلك، أيْ تلك الأساليب اللّغوية التي يؤلِّفَها متحدّثين بالغين من لغات مختلفة عند حاجتهم للتواصل مع بعضهم البعض لأغراض التجارة أو أيّْ أنواع أخرى من الشراكة المتبادلة. وهو ما دفع بعض الباحثين إلى اقتراح أن نظام "اللغة البدائية" ما يزال موجودًا في الأدمغة البشرية الحديثة، كامنًا تحت النظام اللّغوي الحديث، لا يظهر إلَّا حين يكون هذا الأخير معطوبًا أو لم يتطور بعْد.
ومن شأن تغَيّرٍ أخير أو سلسلة تغيرات أخيرة أن تضيف لنموذج اللغة البدائية بنية أكثر ثراءً، وتشمل أدوات نحوية مثل الدلالات الجمعية، والدلالات الزمنية، والجُمل الموصولة، والعُمَد. لكن، مجددًا، يفترض البعض أن هذا قد يكون تطورًا ثقافيًا محضًا، بينما يفترض آخرون أنه كان يتطلّب تغيرات جينية في أدمغة المتحدثين، فالقرار لم يُحسَم بَعْد.
متى حدث كل هذا؟ مجددًا، من الصعب جدًا التنبؤ بذلك. نعلمُ أنَّ ثمّة شيئًا مهمًا قد حدث في السلسلة البشرية قبل 100,000-50,000 سنة مضت: كان ذلك عندما بدأنا اكتشاف النتاج الثقافي، مثل الأعمال الفنية، وتلك المتعلقة بالطقوس الشعائرية، وهو دليلٌ على ما يمكن أن نسميه الحضارة.
ما الذي تغيّر في الأنواع الحية عند تلك النقطة؟ هل أصبحوا أكثر ذكاءً فقط (وإن كانت أدمغتهم لم تكبر فجأة)؟ هل طوّّروا اللّغة بين ليلة وضحاها؟ هل أصبحوا أكثر ذكاءً بسبب القدرات الفكرية التي أحدثتها اللّغة (مثل القدرة على حفظ تاريخ شفوي على مرّ الأجيال)؟ لكن، إذا كان هذا عندما طوَّروا اللّغة، فهل تغيّروا من اللّا لغة إلى اللّغة الحديثة، أو ربما من "اللّغة البدائية" إلى اللّغة الحديثة؟ وإذا كان الحال كذلك، فمتى ظهرت "اللّغة البدائية"؟ وهل تحدث أبناء عمومتنا "النياندرتال" لغةً بدائية؟ حتى اللّحظة، مازلنا لا نعلم.
كما أن مؤخرًا ظهر مصدر محير من مصادر الأدلة، يتضح فيه أن تغيرًا إحيائيًا في جين يسمى FOXP2 يؤدي إلى عجز في اللّغة، وعجز في التحكم في الوجه والفم كذلك، ويعدّ هذا الجين نسخةً مُحوَّرة جزئيًا من جين متواجد في القردة، والذي يبدو أنه قد وصل لشكله الحالي بين 200,000-100,000 سنة مضت. لذا، فإنه من المغري جدًا تسمية جين FOXP2 بـ"جين اللّغة"، إلّا أنّ الجميع تقريبًا يرون هذا بمثابة أمر مبالغ في تبسيطه.
هل الأفراد المصابون بهذه الطفرة الجينية يعانون بالفعل من إعاقة لغوية، أم أنهم يعانون فقط من صعوبة في الكلام؟ علاوة على ذلك، ورغم التقدم الكبير في علم الأعصاب، فنحن لا نعرف حاليًا إلّا القليل عن كيفية تحديد الجينات لنمو الأدمغة وبنيتها، أو كيف تحدّد بنية الدماغ القدرة على استعمال اللّغة.
مع ذلك، إذا تسنّى لنا يومًا معرفة المزيد عن كيفية تطور القدرة اللّغوية البشرية، فلعلّ الدليل الأكثر وعدًا ربما سيأتي من الجينوم البشري، الذي يحفظ الكثير من تاريخ نوعنا البشري، وسيكون التحدي الأكبر مستقبلًا في محاولة فك شيفرته.
1) أي تعريف الأشياء والأسماء بالسلب لا بالإثبات.
2) إن المصطلح الأكثر شيوعًا للبشرانيات هو القردة العليا، وسيتم ذكر كلا المصطلحين خلال هذه الترجمة.