يناقش "ألترا صوت" على جزأين، أزمة الإعلام المصري، في ضوء التحكم الرسمي فيه وتدجينه من قبل النظام العسكري - الأمني وعلاقات المؤسسة الإعلامية بالمنظومة القائمة خدمة للنظام السياسي. ومحاولة هذه المؤسسات تضليل الرأي العام من خلال تقنيات وأساليب، يحاول المقال مقاربتها. وهنا جزء أول.
من الخطأ، وربما من الظلم أيضًا، التعامل مع أعضاء الفريق الذي يعمل في أو لدى النظام الحاكم في مصر باعتباره "قطعية" واحدة، أو نماذج ثابتة لا يحدث فيها تنوع. صحيح أن أغلبية هؤلاء من النوع الذي لا يستوعب شيئًا عن مفاهيم مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن كثيرًا منهم يحتفظ بمكانه في السلطة مستخدمًا أنيابه لأنه يدرك أن كل ما يملكه من نفوذ مالي وسياسي وربما قليلًا من "البلطجة" المحمية سوف يزول بزواله من هذه الزمرة، لكن الشاهد أن وسط هؤلاء من يسعى أو يظن أنه يسعى لتقديم خدمة للنظام الحاكم من خلال القيام بأدوار تهدف إلى ما يمكن وصفه بـ"عمليات غسيل دماغ" للرأي العام، بهدف إقناعه بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وأن الغلاء الذي يعيشه هو وفرة في الإنتاج، وأن الفقر الذي يتجّرعه كؤوسًا لن يدوم طويلًا، وأن المعتقلين في السجون يجب عليهم أن يحمدوا ربهم لأنهم لم يُعدموا حتى الآن، وأن الرئيس عبد الفتاح السيسي رجل دولة بامتياز، وأن دول العالم المتقدمة تعمل لمصر ألف حساب في كل كبيرة وصغيرة.
يخدم إعلاميون مصريون النظام المصري من خلال قيامهم بـ"عمليات" غسيل دماغ للرأي العام عبر الكذب والخداع
هذه مهمة عدد كبير من "الكهنة" في كل أنظمة الحكم المستمدة جذورها من نظم الحكم في عصور الفراعنة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الحاكم وحاشيته، و"ابعد عن الشعب وغني له" حتى يموت وهو سعيد لأنه شارك في بناء الهرم، الذي لن يزيد على كونه سيكون مقبرة للفرعون. والشاهد أن فكرة التلاعب بالعقول، بشكلها العصري المعتمد على وسائل الإعلام والاتصال، بهدف إيهام الجماهير بأنها تعيش العصور الأزهى والأجمل والأفضل، وهي ليست كذلك بالطبع، ابتدعها النظام النازي عبر زعيمه أدولف هتلر لأن سياسته كانت تعتمد على الحشد الجماهيري بالأساس، وهو أمر لم يكن لينوله إلا عبر اتباع أساليب جديدة ومبتكرة تمكّنه من التلاعب بالعقول وتغيير خرائطها وإحكام سيطرته التامة عليها.
وإذا كان من المعروف دومًا في هذا الشأن أن وزير الدعاية والإعلام النازي جوزيف غوبلز هو الذي تولّى كامل هذه المهمة القذرة، وأنه صاحب تلك المقولة الشهيرة "اكذب..اكذب..حتى تصبح كذبتك كبيرة ويصدقها الناس"، فالأكيد أن هناك أكثر من غوبلز متخفٍ في مصر الآن، وكل مهمة هذا الفريق "الغوبلزي" هي السعي نحو ابتكار الكذب واختراع فنون من الخداع المحبوك يصدّقه الناس ويؤمنون به ولا يعودوا يمتلكون القدرة على نفيه. المهمة صعبة بطبيعة الحال، والأكيد أنها كانت أسهل في السنوات الماضية حينما كانت كل وسائل الإعلام بكافة أشكالها (المرئية- المسموعة – المقروءة) في قبضة النظام، لكن تسرسب بعضها من بين يديه وظهور صحف وقنوات فضائية ومواقع إلكترونية فيها بعض من سمات الإعلام المستقل شكّل عائقًا كبيرًا أمام كل جيوش غوبلز المعشّشة في أركان النظام، لكنهم كأي غوبلز مخلص ظلّوا يقومون بالمهمة، حتى وإن أصبحوا مثل "خيل الحكومة" الذي ينتظر قرار التسريح.
اقرأ/ي أيضًا: قانون الإعلام الموحد في مصر..انتكاسة أم إنجاز؟
في كتابه المهم "المتلاعبون بالعقول"، يقول هربرت شيللر إن "الحكام لا يلجؤون إلى التضليل الإعلامي إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية"، وهو ما يعني أنه قبل ذلك فإن الحاكم لا يكون في حاجة إلى تضليل لأنه لا أهمية للشعب المطحون المضطهد الذي بلا قوة يمكن خشيتها، وهذه نقطة نور لطيفة في الأمر، لأن خروج واحد من رؤساء تحرير الصحف الحكومية أو أحد الوجوه الإعلامية الموالية للنظام في اليوم التالي لكل قرار من شأنه زيادة الضغوط الاقتصادية على أغلبية الشعب المصري، والحديث عن مراعاة محدودي الدخل أو فائدة تلك الزيادات في الأسعار على المدى الطويل (مثلما يقترح بعض عباقرة النظام المصري)، يعني أن كل هؤلاء ومن خلفهم يعملون ألف حساب لك، أو على أقل تقدير يرون الشعب المصري "موجودًا" وليس غائبًا، وهو أمر يتطلّب كل تلك المحاولات الفاشلة لغسيل الدماغ ولتضليل الرأي العام.
في كتابه، يقول هربرت شيللر إن "الحكام لا يلجؤون إلى التضليل الإعلامي إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور كإرادة اجتماعية"
و"غسيل الدماغ" هو مصطلح نفسي شهير، ظهر في الصين عام 1950، ويقصد به محاولات تغيير القناعات والأفكار لقطاع كبير من الأفراد، عبر وسائل متنوعة ومتباينة، تبدأ باستخدام وسائل الإعلام ولا تنتهي بالتهديد والوضع تحت ضغوط وظروف قهرية تقترب أو تتماس مع الموت. علماء النفس حصروا عددًا من العوامل المساعدة على غسيل الدماغ والتي تقوم بها الحكومات المتسلطة عادة مع الشعوب جماعةً أو أفرادًا، ومنها الصدمات النفسية المفاجئة، وهذه متوفرة في الحالة المصرية من خلال القرارات المناهضة لمصالح السواد الأعظم من المواطنين والتي تصدر بشكل مفاجئ، وأيضًا التهديد المستمر، وهو أمر موجود لدى قطاع عريض من المصريين، الذين يعيشون في حلقة مفرغة من العمل المرهق الذي لا يرحم في سبيل توفير لقمة العيش ورغم ذلك يكونون مهددين بقطع العيش في أي لحظة.
وهناك كذلك الإرهاق العصبي الدائم بفعل السهر المتواصل أو النوم المتقطع أو الجوع والعطش الشديدين، وهي كلها عوامل تحدث أيضًا لنسبة لا بأس بها من الشعب المصري الذي يسهر أغلبه في أعمال إضافية وهو ما يسبب إرهاقًا مستمرًا وقلة نوم يجعلان بعضهم أكثر هشاشة وعرضة لعمليات غسيل الدماغ التي تقوم بها أجهزة إعلام الدولة عبر شاشات التلفزيون وأثير الإذاعة وصحفها المملوكة لها، فضلًا عن طابور طويل من وسائل الإعلام الموالية والتي تبدو "مَلَكية أكثر من الملك نفسه".
اقرأ/ي أيضًا:
حرية الصحافة 2016..معركةٌ في سبيل الرسالة المهيمنة
أبو نضاره.. حكاية الساخر المصري الذي ألهم ثورة