يبدو جليًّا اليوم سيطرة الشركات العابرة للقارات على موارد متنامية وقطاعات متوسّعة. وبما أنّ الرياضة أصبحت جزءًا من النشاط التجاريّ فهي لا تمثّل استثناء للقاعدة. وتشعر الجماهير بأثر احتكار وتوظيف الرياضة اقتصاديًّا، فقد استغل جمهور النادي الأفريقي مثلًا مباراة فريقه مع نادي باريس سان جرمان، التي بثّت على قنوات عالميّة مدفوعة، بداية هذا العام لرفع لافتة ضخمة كتب عليها باللغة الإنجليزية شعار "صنعها الفقراء وسرقها الأغنياء".
في مواجهة الاحتكار ابتدع التونسيّون العاجزون عن توفير قيمة الاشتراك طرقًا متنوعة لمشاهدة المباريات بتكلفة أقل
ويتجاوز احتجاج جماهير الرياضة حدود الملاعب، حيث يحرم احتكار شبكة تلفزية واحدة (بي إن سبورت) أغلب التونسيّين من مشاهدة المباريات بالطريقة التي يريدون، وتبلغ قيمة الاشتراك السنويّ ما يعادل قيمة راتب شهريّ لأحد إطارات الدولة. وفي مواجهتهم الاحتكار ابتدع التونسيّون العاجزون عن توفير قيمة الاشتراك طرقًا متنوعة لمشاهدة المباريات بتكلفة أقل.
اقرأ/ي أيضاً: جماعية تونس تقتل فردية الجزائر وتشعل المجموعة
يوجد أوّلا الحلّ الجماعيّ، حيث يجتمع الجمهور، على غرار ما يحصل في الكثير من الدول العربيّة، في مقاهي أو نوادي لمشاهدة المباريات. ولا يكلّف هذا الحلّ المتفرج سوى سعر مشروب أو وجبة. كما تتجاوز آثاره مجرد الاطلاع على مجريات المقابلة الرياضية ليساهم في تمتين العلاقات الاجتماعيّة. حيث تجمع المناسبة الناس حول نشاط مشترك وتلعب دورًا في إدامة العلاقات وتجديدها وتخلق إحساسًا وتطلعات جماعيّة، فتتحوّل المشاهدة من محض نشاط فرديّ إلى ممارسة جماعيّة.
كما يوجد حلّ ثاني يلجأ إليه الراغبون في مشاهدة المباريات في المنزل. حيث توفّر محلات مختصّة أجهزة استقبال موصولة بالإنترنت تتوفّر على شفرات القنوات الأوروبيّة المدفوعة بأسعار منخفضة. ويستطيع التونسيون الذين يلجؤون إلى هذا الإجراء مشاهدة المباريات على نفس الشبكة التلفزيونية، أي بي إن سبورت، بنفس جودة الصورة والإخراج ولكن بتعليق فرنسيّ.
ويبدو أنّ فارق الأسعار بين هذا الخيار وخيار الاشتراك الرسميّ يتغلّب على امتياز اللغة، حيث وإن غابت إحصاءات دقيقة لهذه الظاهرة يكفي الانتشار العالي للمحلات الموفرة للخدمة للدلالة على شعبيتها. كما تتعدى امتيازات أجهزة الاستقبال المقرصنة مجرد مشاهدة القنوات الرياضيّة، حيث بإمكانها تجاوز شفرات أغلب محطات الأفلام والترفيه والأخبار الأوروبيّة المدفوعة.
كثيرًا ما يعبّر جزء من الجمهور الرياضي التونسي في معرض حديثهم عن ظاهرة القنوات المدفوعة، عن حنينهم إلى الزمن القديم
اقرأ/ي أيضاً: أمم أفريقيا.. كيف يتأهل العرب إلى دور الـ 8؟
أما الحلّ الثالث، فهو حلّ فرديّ في أغلب الأحيان. إذ يكفي وجود ربط بالإنترنت حتى يغدو من الممكن مشاهدة المباريات مجانًا على الحواسيب أو الهواتف الذكيّة. ويوفّر عدد كبير من المواقع وصفحات التواصل الاجتماعيّ بثّا مباشرًا للمقابلات الرياضيّة. وإن كان هذا الخيار غير عمليّ نظرًا للتقطعات الكثيرة في البث، ورداءة الصورة في أغلب الأوقات، إلاّ أنّ الآلاف من الناس يلتجؤون إليه كحلّ أخير. حيث يلجأ إليه الناس الفاقدون لطريقة مشاهدة أخرى لعجزهم عن الخروج لأماكن مشاهدة جماعيّة، أو لافتقادهم بالتأكيد موارد مالية تخوّل لهم اللجوء إلى الحلّين السابقين.
كثيرًا ما يعبّر جزء من الجمهور الرياضي، في المقاهي أو فضاءات أخرى مثل صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ، في معرض حديثهم عن ظاهرة القنوات المدفوعة، عن حنينهم إلى الزمن القديم. حيث وإن لم تكن الإمكانيات التقنيّة، مثل صفاء الصورة وبراعة الإخراج، بالمستوى التي عليه الآن، إلاّ أنّ المشاهدة لم تكن حكرًا على المترفين من الناس.
وتتجاوز المسألة مجرّد النفاذ إلى خدمة، حيث أضحت مؤشّرًا طبقيّا. إذ يدل امتلاك جهاز الاستقبال الخاصّ بالشبكة على انتماء الفرد أو العائلة إلى شريحة اجتماعيّة عالية، والعكس بالعكس، ما يسحب التمايز الطبقيّ على رياضة ينحدر جلّ رموزها ومحبوها من سواد الناس الفقراء. وقد كانت في السابق "القناة الوطنيّة"/القناة العمومية، أو بقيّة القنوات العربيّة والأجنبيّة، تقوم بنقل المباريات والمستجدات الرياضيّة مجانًا لجميع الناس بصرف النظر عن مستواهم الاجتماعيّ. ذلك قبل أن تكتشف مجموعة من الشركات أنّه بإمكانها استثمار الشغف الواسع بالرياضة لجني مبالغ ماليّة تتزايد بازدياد عدد البشر.
اقرأ/ي أيضًا: