03-مارس-2024
لسان الدين بن الخطيب أهم وزراء الأندلس ومؤريخها

لسان الدين بن الخطيب أهم وزراء الأندلس ومؤريخها

لسان الدين بن الخطيب أحد أعلام دولة بني الأحمر وأهم وزرائها، نبغ في الأدب والطب والفقه وعلوم اللغة، وامتلك من الجدة والفطنة والاجتهاد ما أهّله للعمل في شؤون الوزارة وتسيير حال البلاد نهارًا، والانشغال بالكتابة والتدوين ليلًا، فلقب بذي الوزارتين (الأدب والسيف) ولقب كذلك بذي الحياتين (حياة العمل نهارًا والكتابة ليلًا). عاش ابن الخطيب حياة حافلة بالإنجاز والثروة والجاه والترف، ولكنه في آخر حياته انقلبت أحواله وصار ممن صحّ فيهم قول إنه عزيز قوم ذُل. في هذا المقال عرض سريع لسيرة ابن الخطيب ومحطات حياته وتقلباتها، وميتته والتنكيل فيه.

نشأ ابن الخطيب في بيت يتصدره أهل العلم والأدب، وتلقى علوم اللغة والقرآن والفقه والطب والأدب وبرع فيها.

دولة على مرجل يغلي

عاش لسان الدين بن الخطيب في عصر كانت فيه الأندلس في أضعف حالاتها، في ظل سلاطينها من بني الأحمر الذين وطدوا حكمهم بالمفاوضات مع القشتاليين، والاتحاد مع المرينيين في المغرب، وقد عاصر السلطان أبا الحجاج يوسف وابنه الغني بالله محمد الخامس مؤسس دولة بني الأحمر. ورغم الحالة السياسية المتردية التي كانت عليها البلاد، فقد كانت العلوم والنهضة الحضارية والعلمية في حال معاكسة، فقد برزت نخبة من العلماء والفقهاء والشعراء، ومن أهمهم لسان الدين بن الخطيب.

 

نشأة لسان الدين ابن الخطيب

ولد لسان الدين بن الخطيب  (محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني الخطيب) في مقاطعة لوشة غرب غرناطة، في فترة كثر ة الفتن في الأندلس بعد نهاية حكم الموحدين والتشرذم الذي لحق بالبلاد. وهو سليل عائلة عريقة قدمت من اليمن عند فتح الأندلس، واستقروا في قرطبة في القرن الثاني الهجري، حتى غادروها بسبب الثورات إلى طليطلة وظلوا هناك إلى القرن الخامس الهجري، ثم رحلوا منها تجنبًا لخطر النصارى، فاستقروا أخيرا في لوشة. 

نشأ ابن الخطيب في بيت يتصدره أهل العلم والأدب، فعُرف جده بالخطيب، وتولى والده ديوان الإنشاء، وكان هو (لسان الدين) قد تلقى علوم اللغة والقرآن والفقه والطب والأدب وبرع فيها.

شغل ابن الخطيب منصب وزارة الإنشاء (تقابلها وزارة الخارجية اليوم)وبرزت مواهبه الأدبية وحنكته السياسية

  • المناصب التي تولاها لسان الدين بن الخطيب

عندما بلغ ابن الخطيب الـ 28 من عمره، استشهد والده في معركة طريف الواقعة بين المسلمين (السلطان أبي الحجاج يوسف سلطان غرناطة، مع سلاطين الدولة المرينية في المغرب) ضد الإسبان عام 741هـ، وهزم فيها المسلمون شر هزيمة. وبعد أعوام ابتلي الناس بالطاعون الذي انتشر في القارات الثلاث، وتسبب بخسارة الكثير من الأرواح. ومن بين من فقدته الأندلس آنذاك وزير ديوان الإنشاء ابن الجيَاب، الذي كان أستاذًا وشيخًا لابن الخطيب. فلما صار المكان خاليًا شغله ابن الخطيب وبرزت مواهبه الأدبية وحنكته السياسية، دفع ذلك السلطان أبي الحجاج يوسف إلى تقريبه وتزكيته وأعطائه ثقته.

خلال وزارته بُعث بابن الخطيب سفيرًا إلى فاس/المغرب في أول زيارة للتعزية بالسلطان المجاهد أبي الحسن المريني، وقدم تعازيه باسم السلطان الأندلسي وتقبلها منه الوالي الجديد السلطان أبو عنان. وكان هدف الزيارة توثيق الرابطة بين الدولتين، وتجديد الثقة والعهود بينهما. وهو ما تولاه ابن الخطيب بأحسن ما يكون. فصارت له حظوة لدى المرينيين أيضًا.

حتى جاء اليوم المشؤوم حين اغتيل السلطان في صلاة العيد من العام 755 (وابن الخطيب في الـ40 من عمره آنذاك)، فتولى السلطة ولده محمد الخامس الغني بالله. واتبع السلطان الجديد نهج والده وقرّب ابن الخطيب منه وأحسن معاملته وأعطاه من النفوذ والقربى ما لم يُعط لأحد.وفي تلك المرحلة بلغ ابن الخطيب مكانة مرموقة فتملك الثروة وتملّك معها النفوذ والحل والعقد في شؤون الدولة. وهذا بطبيعة الحال أثار الحسد والعداوة في نفوس من حوله من طامعين بالسلطة والجاه والمناصب.

أوفِد مرة أخرى بلسان الدين ابن الخطيب إلى فاس، بعد وفاة السلطانين المجاهدين (أبي الحجاج وأبي الحسن المريني). فصارت هناك حاجة إلى إرسال وفد يثبّت التحالف بين الأندلس أو ما بقي منها: غرناطة. وبين مملكة المرينيين في المغرب، ضد القشتالين الصليبين المتربصين بالمسلمين من كل ناحية. وقد استقبل السلطان المغربي ابن الخطيب استقبالًا يليق بالملوك ورفع شأنه وقربه إليه. وهكذا امتدت أسباب السلطة والنفوذ لابن الخطيب ردحًا يسيرًا من الزمن.

 

  • الهروب إلى فاس

وبينما لسان الدين في الوزارة يقوم على شؤونها ويتولى مهامها ويرفع منزلته بها، كان لابد من حدث يُخرجه من نعيمه ويلقي به في مهب الكروب. حدث ذلك عام 760 حين قاد أخو السلطان ثورة عليه واستطاع الاستيلاء على الحكم. فهرب السلطان المخلوع الغني بالله محمد الخامس وطلب اللجوء عند المرينيين. فيما بقي ابن الخطيب في غرناطة. ثم خرج منها بدعوة من سلطان المرينيين آنذاك أبو سالم إبراهيم إذ راسل الأخير السلطان الجديد وطلب منه الإفراج عن ابن الخطيب، فأُفرج عنه، ولكن صودرت أمواله كلها وممتلكاته وبيوته وقد عدّدها متحسرًا في إحدى رسائله. ولكنه اكتفى ورضيَ بهجرته سالمًا مع أهله وأولاده. وعيشه في كنف المرينيين بنعم وترف في مدينة سلا بعيدًا عن فاس، وهناك طاب له المقام في لقاء علماء المغرب وشيوخها وفقهائها، وفي تلك الفترة أيضًا قابل ابن خلدون ونشأت بينهما صداقة.

وما إن انقضى عامان حتى اغتيل سلطان غرناظة وعاد الغني بالله محمد الخامس إلى حكمه.

من أبرز خصوم ابن الخطيب تلميذه ابن زمرك، الذي أحسن إليه ابن الخطيب ورفعه وولاه المناصب. والقاضي أبو الحسن النُّباهي 

الرجوع إلى الأندلس بنصف قلب

لما رجع محمد الخامس إلى ملكه في غرناطة (وسيبقى في الحكم 10 سنوات)، أعاد ابن الخطيب إلى منصبه في الوزارة، وفي هذه المرة آثر لسان الدين ابن الخطيب التخلي عن التفاخر والتبذير والاستفراد بالنفوذ، وقرر أن يسلك مسلكًا آمنًا "هاجرًا للزخرف صادحًا بالحق في أسواق الباطل"  كما يقول عن نفسه. فعمد إلى إنشاء الزوايا والمدارس بيتغي الأجر والثواب. لكن الحاسدين والوشاة ظلوا ينفثون سمومهم في مجلس السلطان ليؤلبوه ضد ابن الخطيب.

  • مرة أخرى إلى فاس 

حاول ابن الخطيب أن ينأى بنفسه عن الوزارة والحكم واستأذن السلطان بالسفر إلى الحج، لكنه رفض وتمسك به وأرغمه على جواره. هذا القرب وفشل المحاولات باعتزال السياسة جعلت المفسدين يزيدون الكيد لابن الخطيب حتى تملكوا من قلب السلطان وسمع لهم. 

وكان المنفذ المعتاد في ذلك الوقت للإطاحة بأي صاحب سلطة هو الاتهام بالزندقة. فقد اتُّهم لسان الدين بن الخطيب بالكفر وأُخذ من مؤلفاته نصوص أُوّلت كدليل على إيمانه بالحلولية، ونصوص أخرى ادُّعي أنها تحتوي دليلًا على الإساءة للنبي وسيرته. وهكذا ظلت تلاحقه التهم حتى أُحرقت كُتبه أمام العامة. فكتب ابن الخطيب رسالة إلى سلطانه يعتذر إليه ويوضح سبب رحيله ونأيه عن الوزارة، ويبرئ فيها نفسه عن أي أسباب أخرى للرحيل. وهكذا هرب ابن الخطيب عام 772 إلى المغرب ناجيًا بنفسه، والتجأ إلى جناب السلطان أبي فارس عبد العزيز المريني. الذي ولتصاريف القدر وحكمته مات بعد عامين، فانكشف بموته ظهر ابن الخطيب وفقد الحماية، وقد كتب عن حزنه لفقدان النصير في إحدى رسائله.

  • لا تلامذة ولا أصدقاء

لعل من أبرز خصوم لسان الدين بن الخطيب تلميذه الشاعر المعروف بابن زمرك، الذي أحسن إليه ابن الخطيب أيما إحسان ورفعه وولاه المناصب. وثاني خصومه شراسة كان القاضي أبو الحسن النُّباهي الذي وقع وثيقة الحكم بالإعدام في حق ابن الخطيب غيابيًا. بل وطالبوا سلطان المغرب الجديد بأن يحبسه، فطاوعهم. ووقع ابن الخطيب في الأسر وتعرض للتعذيب وهو شيخ في آخر عمره. وما كان يحزّ في النفس أن من تولى الأمر نكاية ووشاية وتنفيذًا كان تلميذه ابن زمرك، وغيره ممن كانوا مقربين منه ذات يوم، حتى أنه كتب قصيدة "بعدنا وإن جاورتنا البيوت" في رثاء نفسه.

  • القِتلة الأشد تنكيلًا

لم يكتفِ أعداء ابن الخطيب بحرق كتبه وإذلاله، ولم يهدأ لهم بال في هروبه إلى المغرب، فلاحقوه، وبعد سجنه وتعذيبه أرسلوا له من يقتله خنقًا، ولم  يكن هذا كافيًا أيضًا، فقد انتظروا إلى أن دُفن في مقبرة باب الشريعة في فاس القديمة، وهجموا على قبره ونشلوه، وأضرموا النار في جثمانه حتى تشوّه ثم قبروه مرّة أخرى. ومن هنا لُقّب بذي الميتتين أو بذي القبرين. ولا أحد يعلم على وجه التحديد سبب كل هذا الحقد على الرجل الذي فر بنفسه هاربًا من أقرب الناس إليه.

نُقشت أبيات شعرية من قصيدة جادك الغيث على جدران القصر لتظل شاهدة على نبوغ هذا العالم ومأساته.

ومهما يكن من الأمر يظل لسان الدين ابن الخطيب أشهر وزراء الأندلس ووجهائها وأدبائها. ويشهد له بذلك عظيم أثره في الفكر والأدب والرسائل، فقد وصلتنا من كتبه الناجية مآثر عظيمة ونصوص رفيعة المعنى والمبنى، ومن أهمها الإحاطة في أخبار غرناطة الذي أرخ فيه ابن الخطيب كل ما يتعلق بغرناطة في تلك الفترة الحساسة التي تلتها مصيبة سقوط الأندلس، فوثق في كتابه مناحي الحياة ورجالات السياسة ،و كتابه كناسة الدكان بعد انتقال السكان:الذي يوثق فيه مراسلاته مع سلاطين المغرب، وغيرها من كتب الشعر والمراسلات.

وقد كان مما يحفظ لابن الخطيب مكانته أن عاصر بناء قصر الحمراء ونُقشت أبيات شعرية من قصيدة جادك الغيث على جدران القصر لتظل شاهدة على نبوغ هذا العالم ومأساته.

ورغم أن ابن زمرك أمر برصف الجدران وملئها بنقوش أبياته، ورغم توزع قصائده في كل القصر إلا أنها لن تمحو في يوم آثار غدره لمعلمه وأستاذه ابن الخطيب، بل لعل هذه المغالاة في تخليد اسمه في بنيان رفيع القدر كالحمراء مؤشر على سوء طويته، فقد استأثر لنفسه بالحكم والجاه والخلود. كأنما أراد أن يغسل اسمه من لوثة الغدر. فلم يسلم منها ولم يسلم كذلك من قدره المتربص به، فقد أُرسل إليه من يقتله في عقر داره بسبب وشاية غيره به.