كنتُ أجلس عند صديقي صاحب كشك الكتب، في وسط البلد، عندما حضر شاب يسأل عن مبيعات كتابه، الصادر حديثًا عن دار نشر أردنية. وكان الشاب –وهو كاتب مقيم في الخليج- في حيرة من أمره؛ فهو يتلقى ردودًا وتفاعلًا كبيرًا من القرّاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكثيرون يراسلونه معبرين عن إعجابهم بالكتاب. في حين، يصر الناشر على أنّ الكتاب لا يبيع مطلقًا، وعلى أنّ جميع النسخ التي تمت طباعتها لا تزال متكدسة في مستودع الدار.
يصر أصحاب دور النشر على ترديد لازمة كساد سوق الكتاب، كي لا يعطوا الكاتب حصته من الأرباح
وقد أصبت بالصدمة حينما اعترف لي صديقي بأن الكشك وحده باع أكثر من ألف نسخة من الكتاب، فقمت بالاتصال بعدد من أصحاب الأكشاك وبسطات الكتب، الذين أعرفهم، فأدلوا بنسب متقاربة من المبيعات. مما يفيد بأن الكتاب في أسوأ الظروف قد باع أكثر من خمسة آلاف نسخة، علمًا أنّ العقد الموقع مع الناشر يخوله بطباعة ألف نسخة فقط!
اقرأ/ي أيضًا: مكتبات الموتى.. إلى الرصيف سر
هذه الحادثة قد تفسّر أسباب إصرار أصحاب دور النشر على ترديد لازمة كساد سوق الكتاب، والشكوى من ضعف معدل مبيعاته. فالناشر هنا رفض أن يشرك الكاتب في نسبته من الأرباح، علمًا أنّ الأخير هو من تحمل تكلفة الطباعة، وهو تقليد متبع في أغلب دور النشر العربية. كما أن هذه الحجة تبيح للناشر التلاعب بكل معايير النشر وتقاليدها؛ ففي حين ينص العقد على طباعة ألف نسخة فإنه يطبع نصف هذا العدد، معولًا على ضعف المبيعات، وإذا كان الحظ حليف الكتاب، فسيقوم بطباعة المزيد بدون علم المؤلف. وقد صرّح أحد الكتّاب، عبر الفيسبوك، أنه اكتشف أنّ دار نشر عربية مشهورة لم تطبع من كتابه سوى مئة وخمسين نسخة، لذلك تصر هذه الدار دائمًا على أن لا تزيد الحصة التي يتسلمها الكاتب على خمسين نسخة.
فضلًا عن طريقة التعامل المتناقضة التي يلقاها الكاتب من قبل دور النشر؛ فقبل الاتفاق يتم إيهامه بالجاهزية العالية في التسويق، وأنّ التوزيع عندهم يشمل الوطن العربي، ويوهمك الناشر بأنه قرأ الكتاب ويتوقع له أن يحقق أعلى نسبة مبيعات. ثم فجأة –بعد الإصدار- تتغير المعاملة، ويصبح الكاتب شخصًا عابرًا، وفي حال تجرأ على السؤال عن المبيعات ستلقى في وجهه الموعظة ذاتها عن قلة المبيعات، وعزوف الناس عن القراءة، وإذا طلب نسخة إضافية واحدة من كتابه فإنه سيدفع ثمنها، متحملًا التجميل بالخصم الذي يمنح للمؤلفين. كما سيتحمل تكلفة إقامة حفل التوقيع إذا رغب في ذلك.
لماذا يصر الكاتب على التعاقد مع دار نشر لا تقوم إلا بطباعة اسمها على الكتاب، بدلًا من التعامل مع المطبعة مباشرة؟
وحال النشر في الترجمة ليس بأفضل حالًا، ولأنها سوق رابحة فإن الناشرين لا يكفون عن إغراق السوق بترجمات كثيرة بدون تحكيم لجودتها أو حتى مراجعة لمحتواها. وفي حين تتلقى دار نشر عربية مشهورة –وتوزع على مستوى الوطن العربي- دعمًا ماديًا لنشر ترجمات الدار من مؤسسات غربية، يعادل عشرين يورو للصفحة، فإنها تدفع أربعة يورو فقط منها للمترجم. ويروى أن صاحب الدار طلب من أحد المترجمين أن يمده بترجمات جديدة، فاعتذر الأخير لانشغاله بإعداد أطروحة الدكتوراة، مما يمنعه من الترجمة بشكل جيد. فما كان من الرجل إلا أن ابتسم وقال له: "يا أخي ترجم أي شيء، فالقارئ العربي غبي ولا تفرق معه"!
وفي حين لا بد من الاعتراف بوجود بعض دور النشر –ظهرت في السنوات الأخيرة- تتعامل باحترام مع الكاتب وتدفع حقوقه، غير أن عددها القليل لا يجعل منها ظاهرة مؤثرة مقارنة بما يعانيه الكتّاب في الوطن العربي بأكمله مع أصحاب دور النّشر وسياساتهم. الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل: إذا كان الكاتب، في أغلب الأحوال، يدفع تكلفة طباعة كتابه، ويقوم بمهمة توزيعه على الأكشاك والمكتبات؛ فلماذا يصر على التعاقد مع دار نشر كل ما تقوم هو طباعة اسمها على الكتاب بدلًا من التعامل مع المطبعة مباشرة؟
اقر/ي أيضًا: القارئ في اللانهاية