حينما كنت قد كتبت مقالًا عن تويتر تحت عنوان "التويتر معلمًا للقراءة"، كتب أحد القراء المغاربة معلقًا: "تويتر هذا لا يعني المغاربة لأنهم لا يستعملونه كموقع، فهُم أكثر انجذابًا إلى فيسبوك". لم يكن هذا القارئ يخالفني فيما ذهبت إليه، وإنّما كان ينبّهني أنّ الموضوعات التي نطرقها لا تعني القارئ العربي بالمستوى نفسه من الأهمية.
ما أشار إليه هذا القارئ كان يخالجني كلما نشرت مقالًا عن "التعدّد اللغوي" في منبر من منابر الشرق العربي. فقد كنت ألمس من خلال بعض ردود الأفعال، أن هذه القضية لا تعني القارئ العربي في المشرق بالدرجة نفسها التي تعنينا في المغرب العربي، أو لنقل، على الأقل، إنها لا تأخذ الدلالة نفسها. بل إنّني قد أذهب حتى القول إن هذا يصدق حتى على "مسألة الترجمة". عندما كنت أكتب، على سبيل المثال، "إن الترجمة عندنا في المغرب ليست مجرد مسألة نظرية وإنّما هي واقع معيش"، كنت ألمس عند القارئ في المشرق أنه يجد في عبارتي نوعًا من المبالغة. لست أزعم بذلك أن الترجمة تنحل عند ذلك القارئ إلى مجرد مسألة تقنية، كل ما في الأمر أنها لا تكتسي "الخطورة" التي تكتسيها عند من يعيش الازدواجية اللغوية كواقع يومي.
الفضاءات العربية التي هيمنت فيها اللغة الإنجليزية تفتحت على الفلسفة التحليلية، وفيما قبل على النزعات البراغماتية، على عكس الفضاءات التي سادت فيها اللغة الفرنسية التي مهدت الطريق نحو الفكر الفرنسي، وعبره الفكر الألماني
هل يمكن أن نستخلص من ذلك أن المتلقي العربي لا يقيس بالميزان نفسه أهمية القضايا المطروحة على الساحة العربية، وأساسًا ما يتعلق باللغة؟
يحضرني مثال قضية الترجمة كيف طرحت في الثقافة العربية الكلاسيكية، وكيف لم تلق عند الإغريق إلا الإهمال. فالمعروف أن اليونان لم يطوّروا أيّ نظرية عن الترجمة، بل إنّهم لم يولوا أيّ أهمية لغير لغتهم. ولم يكن يهمهم أن ينقلوا ما أنتجته لغات أخرى. الأمر على عكس ذلك عند الثقافة العربية الكلاسيكية التي عرفت ازدهارًا كبيرًا لحركة الترجمة ممارسة وتنظيرًا. قد يقال إن هذا المثال لا يتعلق باللغة نفسها، وإنما يقارن بين لغتين مختلفتين وثقافتين متباينتين. إلا أننا يمكن أن نستخلص منه أن الموضوعات النظرية لا تكتسي أهميتها في ذاتها، وإنما تتخذ دلالاتها وقيمتها من الثقافة التي تطرحها، ومن الأطر الاجتماعية التي تنمو في حضنها، والسياق العام الذي تحيا فيه، ولكن، أساسًا من اللغة التي تتخذها أداة تعبير.
ملاحظة القارئ التي سبق أن أشرت إليها تنبّه إلى أمر أساس، وهو أن قضايا لغوية لا تلقى الاستجابة نفسها داخل اللغة الواحدة. يرجع هذا في نظرنا إلى اللغة أو اللغات التي تتعايش معها تلك اللغة. من هنا فيبدو أن الازدواجية اللغوية التي يعيشها المتلقي العربي داخل الفضاء الفرنكفوني، مختلفة عن تلك التي يعرفها في الفضاء الأنجلوساكسوني. هذا فضلًا عما تروّجه اللغة الأجنبية من قضايا داخل الفضاء الذي تنتشر فيه.
لا يعني ذلك، بطبيعة الحال، أن القضايا المطروحة هنا وهناك تفصل بينها حدود جغرافية، وإنما فقط أنها مدينة للغة الأجنبية التي تهيمن على ذلك الفضاء. نستطيع أن نتبين ذلك، على سبيل المثال، إذا قلنا إن الفضاءات العربية التي هيمنت فيها اللغة الإنجليزية تفتحت أكثر من غيرها على الفلسفة التحليلية، وفيما قبل على النزعات البراغماتية. وهذا على عكس الفضاءات التي سادت فيها اللغة الفرنسية التي مهدت الطريق نحو الفكر الفرنسي، وعبره الفكر الألماني والفلسفات الجدلية.
ربما كان ذلك هو السبب في كون بعض القضايا لا تتخذ الحمولة والأهمية نفسهما هنا وهناك، حتى إن كان الأمر يتعلق بفضاءات تستعمل اللغة نفسها، وتنتمي إلى القومية ذاتها.