في كتابه "الرواية المصرية: سؤال الحرية ومساءلة الاستبداد"، يؤكد الناقد المصري يسري عبد الله أن تجربة محمد البساطي (1937 - 2012) مميزة ولها خصوصيتها في مسار السرد الروائي العربي، لافتًا إلى أن سؤال الحرية يحضر في جميع أعمال محمد البساطي، كثيمة مركزية وهاجس أساسي لشخوصه المأزومين بشرطهم الوجودي، داخل بيئات قامعة تهدد توقهم للحرية، الرافضين للاستبداد بأشكاله المتنوعة سياسيًا ودينيًا وجتماعيًا. يظهر ذلك الإصرار منذ روايات محمد البساطي الأولى "المقهى الزجاجي" (1978) وحتى روايته الأخيرة "وسريرهما أخضر" (2011)، وفي ما بينهما سيصقل محمد البساطي أسلوبه الشهير في الكتابة بالعبارات القصيرة النافذة الموجزة. ويشير يسري عبد الله إلى أن ثمة خاصية أسلوبية تتعلّق بالاستهلال السردي في نصوص محمد البساطي، تذكرنا بما قاله ميشيل ريفاتير حول مفهوم الأسلوب بوصفه "قوة ضاغطة تتوجه نحو حساسية القارئ ولها قدرة على النفاذ إلى سيكولوجيته"، فمحمد البساطي لا يبدأ البدايات التقليدية التي تتوخى الجمل الطويلة المسكونة بزوائد مجانية أحيانًا، لكنه يعرف الطريق إلى قارئه جيدًا، فيصل إليه عبر أقصر الطرق وبأكثر العبارات إيجازًا.
في "أسوار" لمحمد البساطي، سيجد القارئ نفسه داخل الرواية فور مروره على الفقرات الأولى منها
في "أسوار" (2008، در الآداب) سيجد القارئ نفسه داخل الرواية فور مروره على الفقرات الأولى منها، التي ستعرّفه على مكانها المركزي وشخوصها الرئيسية. هنا سجن، وأحد الحرّاس العاملين بداخله، مولع بتربية الحمام.
اقرأ/ي أيضًا: مكاوي سعيد: أنا كاتب كسول ومزاجي
فقط، هكذا، وبجملة واحدة يمكننا تلخيص فكرة الرواية، ولكن ما يفعله محمد البساطي في نسج عمله هو ما يجعله يتجاوز المأزق الكلاسيكي في مقاربة مثل هذه الثيمات الروائية القائمة على ثنائيات متضادة في بيئات تربض تحت أثقال من معوقات التحقق الإنساني. تبدأ رواية "أسوار" بمفارقة بين عالمين تشكّل مفتاحًا لفهمها، حيث يطل حارس السجن على فضاء السجن، أثناء إطعامه الحمام وإطلاقه في الفضاء من سطح داره، ويقوم بإحصاء ما ينقص من السجناء المحكومين بالإعدام وما يزيد من عدد طيوره. بهذا المشهد الافتتاحي يقوم محمد البساطي بتقديم المكان الذي ستدور خلاله أغلب أحداث الرواية "السجن غير بعيد عن البيت، أراه بسوره المتعرج عندما أكون فوق السطح أطعم الحمام"، وفي الوقت ذاته يفتح المجال للعبور في تأسيس حكاية السارد، حارس السجن الذي ورث وظيفته عن أبيه بعد تقاعده ويسعى إلى توريثها إلى ابنه الشاب: "المرة الأولي التي أدخل فيها السجن كنت في العاشرة. اصطحبني أبي وكان حارسًا هناك".
عنوان الرواية وافتتاحيتها قد تذهب بظن البعض -من غير قرّاء محمد البساطي- إلى أن الصفحات التالية ستشهد مرور الكاتب عن أسوار السجن وروتينه ومآسيه وحكايات نزلائه، لكن هذا النوع سريعًا ما ستعالجه الرواية برغبة حارس السجن في الانتقال للعمل في المعتقل المجاور "لأنه أفضل وأكثر راحة"، حيث المعتقلين السياسيين الذين لا يشبهون السجناء الجنائيين لا في قذارتهم، ولا في ممارساتهم الجنسية، ولا في تعاطيهم المخدرات. بوابة صغيرة وخطوط من الأسلاك هي ما يفصل بين السجن والمعتقل، تسمح بإبقاء حيوية وسخونة الأحداث والأخبار التي يتبادلها الحرّاس في ما بينهم.
لم يجرّب البساطي تجربة الاعتقال أو السجن في حياته، لكنه كتب واحدة من أجمل الروايات عن السجن
لم يجرّب محمد البساطي تجربة الاعتقال أو السجن في حياته، رغم أنه واحد من مشاكسي الستينات وصديق لكل من طالتهم يد السلطة، ولكنه عمل في الجهاز المركزي للمحاسبات (جهاز حكومي يقوم بمراقبة الأجهزة الحكومية ماليًا) لمدة 5 سنوات، وخلال تلك الفترة زار الكثير جدًا من سجون مصر، وربما يكون ذلك مبعث تركيز اهتمامه على التخييل في ما وراء تجربة السجن، وربطها بسياق نفسي وسياسي واجتماعي أكثر من توثيق وإعادة كتابة السرديات الشهيرة عن تجربة السجن أو الاعتقال. السجن موحش وكئيب، هذا ثابت، ولا يحتاج إلى تأكيد روائي، لذا يحضر سجن "أسوار" كمرآة لنظام ظالم قائم على هيراركية الاحتقار ومجتمع مقموع مندوب بتشوهاته. السجن موجود في "أسوار" بغية تفكيك علاقاته التي يخلقها بين مجموعات وجزر بشرية تتجاذبها أهواء ورغبات وتحمل وراءها تاريخ آثام وأحلام متنافرة، لا بهدف إدراك محطة وصول مألوفة تنتظر هناك مشاهد التعذيب التقليدية التي اعتدناها في هذا النوع.
اقرأ/ي أيضًا: يوسف إدريس.. كاتب أم رجل دولة؟
وكعادته، يختار محمد البساطي أبطاله في غفلتهم عما يفعلونه، وبلسان محايد ينسج حياتهم داخل صورة كبيرة تتجاوزهم بمفارقاتها. تفعل الرواية هذا كله دون الخوض في أحكام أو الدفاع والانحياز لطرف على حساب آخر، بل بنقاء لغوي يستمد أسلوبه من تاريخ روائي غزير مشيّد بنَفَس حكواتي عتيد، يعرف كيف يُظهر العالم في قسوته المرعبة ولحظات خِفته المشرعة على الأحلام، عالم يتحوّل فيه الجميع إلى مساجين محاطين بأسوار عالية، عبيد إرادة خارجية أكبر منهم تصبغهم بمنطقها وتجعلهم عبيدًا صالحين لكل الأوقات ولتقديم كافة الخدمات دون مقابل، تغلبهم سلطة المكان وتطحنهم ليصيّرهم نماذج بشرية متماثلة باهتة كأنها خرجت لتوها من مصنع لاعتياد القهر.
على ذلك، لن تتحدّد ثنائية الحرية/السجن في رواية "أسوار" من خلال عملية الفصل بين عالم الداخل الذي يعيش فيه السجناء والمعتقلون وعالم الخارج الذي يمثّله الحارس وحمامه، بل إن المفارقات ستنشأ من تلاحم هذين العالمين وروابطهما المشتركة. وهكذا سيتيح محمد البساطي لنفسه تجاوز الدلالة الضيقة للسجن الذي يكتب عنه، بحثًا عن السجون الأخرى التي يحبس الواحد نفسه بداخلها، فيكون ترقيم الزمن بالعلامات والوقائع على أسوار السجن، وتكون ذكريات الماضي في قرية بعيدة موضوع استدعاء متكرر من جانب الحارس لمجاراة الزمن المائر للسجناء الذي يرى في مرآته حركة حياته/حياة السجن/الحياة بشكل عام وتبدلاتها.
غير أن ازدحام رواية "أسوار" بأصوات وأفكار متقابلة يعطي الفرصة لقراءتها سياسيًا على نحو لا ينتقص من ثرائها، فرواية مكانها الأساسي أحد السجون المصرية لا بد لها من الاقتراب من قصص ووقائع تجاوزات وجرائم يسمع عنها الجميع يوميًا (بالطبع هذا تقليد تتوارثه الأنظمة)، والسجن السياسي جزء أساسي منها. لكن مقاربة محمد البساطي للسجن لا تشبه غيره من أدباء الستينات الذين شابت أعمالهم ثرثرات السياسة، بل ينحو في عمله إلى حكي متجرد يترك الحكم للقارئ، وفي بعض الأحيان يداري سخريته العميقة حين يحكي قصة تستحق التأمل والابتسام الطويل، مثل ذلك الفصل القصير الذي يتحدث فيه الحارس عن إحدى الفترات النادرة خلا فيها السجن تمامًا من السجناء/الحكايات، ليجد السجّانون أنفسهم في مواجهة الفراغ ومحاولات يائسة لصرف الوقت: "ولا واحد كان في المعتقل. العنبر قفلناه. القوة كلها. كتبة. حراس. ضباط... يوم وراء يوم ومفيش خبر عن معتقلين، فكرني ببلاد الناس فيها تقعد تستنى المطر".
مقاربة البساطي للسجن لا تشبه غيره من أدباء الستينيات الذين شابت أعمالهم ثرثرات السياسة
في حوار نُشر عقب ظهور الرواية في 2008، يكشف محمد البساطي عن اهتمامه بتفاصيل جريمة قتل سوزان تميم، والتي اتهم فيها ضابط الشرطة المصري السابق محسن السكري بقتلها مقابل مليوني دولار قبضها من رجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى. يسأل الصحفي محمد البساطي مداعبًا: "هل "سوزان وهشام" هي روايتك القادمة؟"، فيجيب الكاتب بأن مصر تحتاج إلى دوستويفسكي لينقل لنا تلك الصورة المشحونة بكل هذا العبث واللامعقول. وفي إجابته عن سؤال لاحق حول الطريقة التي يمكن بها التوثيق الروائي للحظة الحالية (أواخر سنوات مبارك) مثلما فعل نجيب محفوظ في روايته "اللص والكلاب"، المستمدة بدورها من جريمة حقيقية وقعت في الستينيات، يردّ البساطي بأنه كتب ما يحدث بالفعل في روايته "أسوار". وفي تفاصيل الإجابة يقول إن "داخل هذه الأسوار يعيش أغلب الشعب وتشعر بالقمع الذي يعيشونه، لا يشعرون بأمل في أي شيء"، ولكنه يشدّد على ضرورة الابتعاد عن الدخول في تفاصيل ذلك الواقع لأنها ستفسد العمل"، مشيرًا إلى أن "الواقع في اللحظة الحالية يفوق الخيال. ولو أن كاتبًا كتب ما يحدث، فلن يصدّقه أحد […] عندما كتب نجيب محفوظ "اللص والكلاب"، خرج من معمعة الفساد وجاء بشخصية أوحت بالانكسار الرهيب الذي تعيشه البلاد حينها".
اقرأ/ي أيضًا: تعرف على 5 من كلاسيكيات الرواية العربية
الآن بعد ثورة مجهضة وأحلام شاهقة تواضعت كثيرًا، وحرية في المدى صارت أبعد من أن تُرى؛ تعيش مصر لحظة رديئة في تاريخها على أكثر من مستوى، تتزايد فيها الأسوار وتعلو فيها أصوات القمع والنفي والإقصاء ويصبح على كل مواطن اختبار وتحمل سياسات التجويع والإفقار والامتهان وتقبّل كل تلك البيانات والخطب عن أمجاد وإنجازات النظام الحالي. في لحظة مثل التي نعيشها حاليًا، على من يهمّهم الأمر استقبال ما يحدث بما يتطلبه، ورفض الركون إلى الولولة وممارسة طقوس جلد الذات، والتفتيش على ما قد يخبره بما اختبره آخرون في سياقات أخرى موحشة وكئيبة. ربما علينا العودة إلى قراءة سارد ماهر يملك قدرة عجيبة على الحكي، مماثلة لحسّه الساخر المميز الذي يمرّر من خلاله إدانته اللاذعة للسلطة وأدواتها القمعية. ربما علينا الآن قراءة رواية "أسوار".
اقرأ/ي أيضًا: