لماذا نقرأ الرواية؟ سؤالٌ أجاب عنه كتّابٌ وأدباءٌ وقراءٌ كُثر، كلٌ بطريقته وبناءً على تجاربه الشخصية. كما أجابت عنه العديد من الأحداث التاريخية الفارقة في تاريخ البشرية. فخلال السنوات الثلاث الماضية، أجابت حادثتان فارقتان في تاريخنا الراهن على هذا السؤال: جائحة كورونا، والغزو الروسي لأوكرانيا.
يقول الأرجنتيني إرنستو ساباتو إن الرواية توفّر إجابات لكل أنواع الأسئلة البشرية، وأنها وحدها القادرة على ملامسة إحساسنا وتقديم فروض العزاء لنا
فالأولى دفعت القراء للعودة إلى الروايات التي تناولت الجوائح والأوبئة عبر التاريخ لأسباب مختلفة، منها البحث عن إجابات على الأسئلة التي وضعتنا الجائحة أمامها، على اعتبار أن الرواية، وبحسب الكاتب والروائي الأرجنتيني إرنستو ساباتو، توفّر إجابات لكل أنواع الأسئلة البشرية.
أو للمقارنة بين ظروف تفشيها وردود أفعالنا عليها وكيفية تعاملنا معها من جهة، وبين ظروف انتشار الأوبئة السابقة وردود الأفعال الأولية للبشر عليها، وكذا وطريقة تعاملهم معها قبل عشرات ومئات وآلاف السنين، من جهة أخرى.
فالقراء يدركون جيدًا أن الرواية هي وحدها القادرة على منحنا فرصة اكتشاف طبيعة الحياة اليومية وشكل أنماط عيش الناس، في ظل جائحةٍ ما، قبل مئات أو آلاف السنين. كما أنها الوحيدة القادرة على نقل وتصوير ألمهم ومعاناتهم والندوب التي تركها الوباء داخل من نجى منهم.
الروائي التركي أورهان باموق عرف من خلال الرواية أن ما يجعل الجوائح الوبائية تتشابه عبر التاريخ هو ردود الأفعال الأولية للبشر عليها، وهي: إنكار وجود الوباء، وتأخر استجابة الحكومات وتشويهها للحقائق وتلاعبها بالأرقام بهدف إنكار تفشيه، إضافةً إلى تصويره على أنه وباءٌ أجنبي وافدٌ من الخارج لأسباب أو نوايا خبيثة.
هذه تفاصيل عرفها باموق من خلال الرواية التي تجيب وحدها على سؤال مثل: في عالمٍ بلا صحف، ولا راديو، ولا تلفزيون، كيف كان البشر يتعاملون مع الوباء، ويشكِّلون تصوراتهم عنه؟ الإجابة هنا تأتي على شكل قصص وحكايات نقرأها فنعرف أنهم اعتمدوا في استيعابهم للوباء ومخاطره على مخيّلتهم كما يخبرنا الروائي التركي في مقال له بعنوان "ماذا تُعلّمنا روايات الجوائح العظيمة؟".
ولباموق رواية عن الجوائح صدرت العام الفائت تحت عنوان "ليالي الطاعون"، تناول فيها ظروف وتداعيات انتشار الموجة الثالثة من وباء الطاعون في إحدى جزر الإمبراطورية العثمانية عام 1901. وما ذكره الروائي التركي في مقاله الذي استعرض فيه عدة روايات تناولت جوائح مختلفة، عرفه من خلال الروايات التي قرأها أثناء كتابته لهذه الرواية التي بدأ بكتابتها قبل بداية الجائحة بثلاث سنوات.
نقرأ الرواية إذًا لأنها سبيلنا الوحيد للعودة إلى الماضي بالطريقة التي نرغب أن نعود إليه من خلالها. نقرأها لأنها تتيح لنا أن نكون رحّالة بين جغرافيات مختلفة في أزمنة وعصور مختلفة أيضًا. نقرأها لأنها، وبحسب الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس، تقول ما يمتنع التاريخ عن قوله.
ولأن العودة إلى الماضي تساعد بطريقة أو بأخرى على فهم الحاضر، عُدنا إلى روايات الجوائح لفهم الجائحة، وإلى روايات الحرب لفهم الحرب الروسية الأوكرانية. وهذه الحرب هي الحادثة الثانية التي أجابت على سؤال: لماذا نقرأ الرواية؟ حين دفعتنا إلى استعادة روايات الحروب وقراءتها لفهم مصير الحرب الراهنة، خاصةً بعد تشبيهها بالغزو السوفييتي لأفغانستان نهاية 1979.
لا ننسى من يقرأ الرواية من أجل المتعة الشخصية، أو بهدف التسلية والتخفيف عن الذات وتصريف الوقت الفائض، وهو ما حدث، على سبيل المثال، خلال الحجر الصحي. كما لا ننسى من يقرأها هربًا من واقعه البائس، والأمثلة هنا كثيرة، نذكر منها قصة رواها الناقد المجري – الفرنسي تزفيتان تودوروف في كتابه "الأدب في خطر"، عن امرأة فرنسية سجنها النازيون خلال احتلالهم لباريس في الحرب العالمية الثانية.
هذه المرأة كانت ممنوعة من استعارة الكتب، إلا أنها استطاعت بطريقة أو بأخرى الحصول عليها. ومنذ حصولها على أول رواية، سكن أبطال الروايات التي تقرأها زنزانتها، وكسروا وحدتها، ورافقوها إلى معسكر "أوشفيتز"، أو معسكر الموت، الذي ساعدوها على احتمال قسوة الحياة فيه. وحين خرجت منه، كانت قد أدركت أن شخوص الروايات يمكن أن يكونوا رفاقًا موثوقين. وفي هذه الحكاية إجابة على سؤال: لماذا نقرأ الرواية؟
نقرأ الرواية لأنها تتيح لنا أن نكون رحّالة بين جغرافيات مختلفة في أزمنة وعصور مختلفة
الروائي التشيكي – الفرنسي ميلان كونديرا قدّم أيضًا العديد من الإجابات على هذا السؤال، أكثرها إثارةً للاهتمام قوله في كتابه "الستارة"، خلال حديثه عن ولادة الأمة التشيكية، إنه لم يفهم السبب الذي دفع التشيكيين إلى التخلّي عن الثقافة الألمانية الناضجة، لصالح ثقافتهم الناشئة، وأنه كان يمكن لرواية، رواية كبرى، أن تجعله يفهم دوافعهم، ولكن هذه الرواية لم تُكتب. وبحسب صاحب "حفلة التفاهة"، هناك حالات يكون فيها غياب الرواية غير قابل للعلاج.
والرواية، كما يراها الأرجنتيني إرنستو ساباتو، هي: "وحدها القادرة على ملامسة إحساسنا وتقديم فروض العزاء لنا عند تلك اللحظة التي تطرق فيها مطرقة القدر حياتنا وتنزع عنّا كل شي يمنحنا الإحساس بوجود قيمة ما – وقبل هذا وجود معنىً ما – لحيواتنا".