مساجد اسطنبول عامرة بالقصص والحكايات التي لا تنتهي. إذ تحتوي اسطنبول، المدينة التركية الأكثر شساعة على ما يزيد عن 3000 مسجد، بدءًا من المساجد الضخمة المبنية على مساحات ممتدة وصولاً إلى المباني الخشبية المتواضعة في شوارع المدينة.
يمكن سماع أصوات المؤذنين متداخلة ومتشابكة مع بعضها البعض قبل كل صلاة من الصلوات الخمس اليومية
كان بعض هذه المساجد كنائس بيزنطية في الأصل، يعود تاريخها إلى القرن الرابع بعد الميلاد، ولا تزال المساجد الجديدة تبنى بانتظام حتى الآن. وسواء كانت معاصرة أو قديمة، تُظهر مساجد إسطنبول تنوعاً هائلاً: فبعضها يتميز بقباب مرتفعة ومليئة بالبلاط المزخرف والخط، في حين يتميز البعض الآخر بالأناقة والبساطة والحداثة.
تمثل مساجد المدينة مراكز لرعاية مجتمعاتها، وتعرض الفن والحرف اليدوية، وترحب بالأجانب ليشهدوا شعائر المسلمين وتعبدهم. تستند هذه المقالة إلى مقابلة مع أنور رستم ، مؤرخ الفن الإسلامي والهندسة المعمارية الذي كتب كثيراً عن مساجد اسطنبول.
مساجد في ملتقى الامبراطوريات
ينتقل الزائر لهذه المساجد بالزمن إلى العصور الماضية ويرى فيها قصص صعود وسقوط الإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية والعثمانية.
قبل اكتشاف الكهرباء، أضيئت العديد من المساجد بمصابيح متوهجة، تغذي الغرف بضوء ذهبي. كانت قاعة الصلاة الفسيحة مغطاة بسجاد منسوج يدوياً بألوان مختلفة، يغلب عليها الأحمر. بغض النظر عن حجم المكان، كان المصلون يصلون كتفاً بكتف. قبل ظهور مزيلات العرق، كانت رائحة البخور المحترق تلطف الهواء. على عكس بعض طوائف المسيحية، لم يكن البخور مطلوباً لأداء الشعائر.
اليوم، تضاء المساجد بالمصابيح الكهربائية وغالبًا ما تحتوي على سجادة بلون التركواز مصنوعة آليًا. لم تعد المساجد تعبق برائحة البخور. ومع ذلك، تظل صلوات المصلين التي تملأ هذه القاعات استمراراً لطقوس دينية راسخة.
يخلق المؤذنون، الذين يواصلون أداء شعيرة أساسية في دعوة المصلين للصلاة، واحداً من أكثر الأصوات انتشاراً في المدينة. يمكن سماع أصوات المؤذنين متداخلة ومتشابكة مع بعضها البعض قبل كل صلاة من الصلوات الخمس اليومية.
في الوقت الحاضر، يبث الأذان للصلاة باللغة العربية من خلال مكبرات الصوت المثبتة على المآذن، وهي أبراج يمكن أن يصل ارتفاعها إلى مئات الأقدام. في الماضي، كنت تسمع فقط ما يمكن أن يصل أذنك من صوت المؤذن. كان المؤذنون يصعدون إلى الشرفات فوق المآذن ويضعون أيديهم حول أفواههم لنشر أذانهم بشكل أفضل.
كانت إسطنبول التي اشتهرت بربطها بين آسيا وأوروبا، موطناً لثقافات وديانات قوية مختلفة. أسس الإمبراطور الروماني قسطنطين المدينة عام 330م. وسميت المدينة باسم "القسطنطينية" تكريماً له وعرفت بهذا الاسم حتى عام 1930 حيث غُير اسمها رسميًا ليصبح اسطنبول، الاسم التركي التاريخي للمدينة. عندما انقسمت الإمبراطورية الرومانية عام 395، أصبحت المدينة عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) ومركزاً للمسيحية، حتى فتحها السلطان العثماني محمد الثاني عام 1453. وقد حول الأتراك المسلمون بعض الكنائس في أرجاء المدينة إلى مساجد كما بنوا مساجدهم الخاصة.
غالباً ما تسمى المساجد باسم الراعي الذي مولها، وأصبح حجم المبنى تعبيراً مادياً عن السلطة السياسية للراعي أو وضعه الاجتماعي. كانت هناك قواعد غير مكتوبة حول حجم المسجد على سبيل المثال، لم يُسمح إلا لأفراد العائلة المالكة العثمانية ببناء أكثر من مئذنة للمسجد الواحد.
في أوائل القرن السابع عشر، تسبب السلطان أحمد الأول في شيء أقرب للفضيحة بخرقه قاعدة أخرى تنص على أن السلاطين الذين نجحوا في الحرب هم الوحيدون الذين يستطيعون أن يبنوا مساجد كبيرة.
اقترح السلطان بناء مسجد جديد في الجهة المقابلة لأكبر مساجد المدينة، كاتدرائية آيا صوفيا التي تم تحويلها إلى مسجد، دون فتح يبرر ذلك. نصحه مستشاروه بعدم فعل ذلك، لكنه بناه في جميع الأحوال. واليوم يعتبر مسجد السلطان أحمد أو المسجد الأزرق أحد أكثر المباني روعة في العالم، بمآذنه الستة. وبعد مرور أربعة قرون، ما زال هذا المسجد هو أكثر مآثر السلطان أحمد شهرة.
معرض للفن والبراعة الحرفية
بالإضافة إلى كونها مكاناً لاجتماع المؤمنين، تمثل مساجد اسطنبول معارض للجمال والبراعة الهندسية للناس من كل أنحاء العالم.
ترمز قباب المساجد الكبرى في اسطنبول لسعة السماء والجوانب الروحانية، لكنها مثل المآذن، مثل حجمها عرضاً للقوة والسلطة. بنيت القبة الرئيسية في مسجد السليمانية في منتصف القرن السادس عشر في عهد السلطان سليمان القانوني ويبلغ قطرها 86 قدماً ويبلغ ارتفاعها 174 قدماً، وهي أطول من قوس النصر في باريس الذي يبلغ ارتفاعه 12 متراً.
كان المهندس المعماري المسؤول عن بناء المسجد هو معمار سنان الشهير الذي خدم سلطانين بعد السلطان سليمان. وكان مسؤولاً عن بناء عشرات المساجد والأبنية الأخرى في اسطنبول، وهو أحد أشهر الشخصيات في التاريخ المعماري للمدينة.
وبسبب القواعد المتشددة في الماضي حول كيفية بناء المساجد، أصبحت أعمال الزخرفة والبلاط طريقة لتجاوز هذه القواعد. كان بإمكان المساجد الصغيرة والمتواضعة والتي لم يكن في إمكانها بناء قباب ومآذن ضخمة أن تذهل المصلين فيها بالزخارف المعقدة. مثل الموجودة في مسجد صانع الأغطية تاكيشي إبراهيم آغا الذي بني في أواخر القرن السادس عشر، والمليء بالبلاط المزخرف متعدد الألوان المجلوب من نيقية.
اشتهرت نيقية التي تقع على بعد 85 ميلاً جنوب شرقي اسطنبول، بصناعة البلاط التي ازدهرت فيها لأكثر من 1500 عام. تحمل قطع بلاط السيراميك اللامعة المصنعة هناك رسومات لنباتات مزهرة مثل التوليب والقرنفل والكروم وقد تأثرت في بعضها بصناعة الخزف الصينية التي اشتهرت على طول طريق الحرير.
تزين آيات من القرآن أو عبارات من الحديث الشريف أو المأثورات المرسومة أو المنحوتة بخطوط زخرفية، داخل المباني وخارجها. لم تستق معناها من قدرة الناس على قراءتها، بل حتى المصلين الذين لم يجيدوا العربية كانوا يقدرون جمال هذه الزخارف التي تحمل بهاء تستقيه من كلمات الله التي تتضمنها.
مجتمع مضياف
بنيت مساجد اسطنبول لتذكر مرتاديها بعظمة بناتها وبهاء مدينة اسطنبول وأمجاد دين الإسلام. تاريخياً كان بإمكان الزوار غير المسلمين دخول مساجد المدينة الرئيسية على الدوام دون صعوبات تذكر، وحتى اليوم يتجول فيها السياح بحرية.
كانت المساجد مراكز مجمعات تحوي حمامات ومدارس ومستشفيات ومكتبات ومطابخ لإطعام الفقراء. ومازالت الحمامات ونوافير الشرب في بعض المساجد موجودة حتى اليوم، وتحولت بعض الأبنية الأخرى لتلائم الاستعمالات الحديثة مثل المقاهي ومكاتب العمل.
دفن الرعاة الذين مولوا هذه المجمعات في بعض الأحيان في مقابر منفصلة ضمن المجمع. وبإمكان الزوار زيارة مراقدهم.
قد يعتقد المرء أن هذه المساجد ستكون أماكن هادئة ومحفوظة، لكنها في الحقيقة مساحات حية ونادراً ما تغلق أبوابها. وقد يفاجئك سماع أصوات صياح الأطفال فيها أو رؤية الناس وهم يلتقطون صور السيلفي داخلها. لكن هذا ما خلقت لأجله المساجد في الحقيقة، أن تجمع الناس في هذه الأماكن الجميلة التي تحيي الروح.