مضى أكثر من عام على تسريبات "أوراق بنما"، التي كشفت عن جيش من الفاسدين، من رجال أعمال وسياسيين ونجوم مشهورين، جميعهم كانوا يسبحون في عالم من "الأموال القذرة" المهربة إلى جنة الملاذات الضريبية، جزيرة بنما، وفي حين أعلن عن فتح 150 تحقيقًا في أكثر من 70 بلدًا حول العالم، بشأن الوثائق المسربة لمتابعة المتهربين قضائيًا، لم تحرك الفضيحة المدوية شيئًا من سكون أي من الحكومات العربية، باستثناء تونس.
بعد مرور عام كامل منذ بداية التحقيق في تونس بخصوص الجهات المشتبهة في قضية "أوراق بنما"، لم تخرج إلى اليوم نتائج هذا التحقيق
فبعد نحو أسبوعين من نشر الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية (ICIJ) أكبر تحقيق استقصائي بخصوص وثائق بنما، صوّت حينئذ البرلمان التونسي على إحداث لجنة للتحقيق في "أوراق بنما"، في جلسة عامة بتاريخ 8 نيسان/ أبريل 2016، وبعدها بأسبوع أعلنت رئاسة البرلمان التونسي عن ميلادها تحت اسم "لجنة التحقيق حول موضوع الفساد المالي والتهرّب الضريبي الذي تمّ الكشف عنه في ما يسمّى أوراق بنما ومدى تورّط تونسيين في الموضوع".
وبالتوازي مع ذلك، فتحت النيابة العمومية بتونس، بناء على المعطيات التي تمّ تداولها في الإعلام التونسي، بحثًا تحقيقيا لـ"للتحرّي والبحث في جملة من الجرائم المحتمل حصولها من قبيل غسيل الأموال ومخالفة مجلّة الصرف"، بهدف المتابعة القضائية في من ثبت تورطهم في عمليات تهريب الأموال.
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. مرزوق وآخرون في شراك "وثائق بنما"
تونس في أوراق بنما
يقود البحث بخصوص تونس على صفحة بيانات "أوراق بنما" بموقع الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية (ICIJ)، إلى ظهور مجموعة من شركات الأوفشور والوسطاء والزبناء التونسيين، المتورطين في عمليات تهريب الأموال نحو بنما أو الجزر العذراء البريطانية.
وجاء نصيب تونس من الشركات المجهولة الاسم (الأوفشور) حوالي أربع شركات تابعة لجهات تونسية، ثلاثة منها مسجلة بالجزر العذراء البريطانية، والأخيرة مسجلة في بنما، وكلا المنطقتين تعرفان بكونهما "ملاذات ضريبية" للأموال المشبوهة، حيث أدارت هناك شركة "موساك فونسيكا"، التي سربت منها وثائق بنما، شبكة شركاتها الوهمية، وهي:
ALGERIAN SAUDI LEASING (ASL) LTD.
كما أورد تحقيق الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية ثلاث جهات تونسية لعبت دور الوسيط بين الزبناء وشركات الأفوشور، وهي:
ARAB LEASING INTERNATIONAL FINANCE
وأتت وثائق بنما على ذكر اسم 31 شخصًا ومؤسسة مع عناوينهم في تونس، تعاملوا مع شركات الأوفشور بهدف تحويل الأموال من تونس إلى بنما مع إخفاء الهوية، وهم، لوكا دوبيني، علي سعيدان، فاطمة الجوادي، اغاثا روزين جاكوب، جون فرنسوا جاكوب، بنك تونس الدولي، مؤسسة بيرر، محمد مهدي عياد، صلاح الدين جنيفان، دافيد قارنيي، الهادي حسن بن كحيل، فتحي بن محسن مختار، صدري بن فتحي مختار، جمال الدلالي، كريم بن مجدي تامر، فؤاد بن مجدي تامر، محمود المهدي، محمد التيجاني ولها، زهرة بوغديري، يامينة بالحاج، سمير العبدلي، ليلى زعنون، إلياس بن شاذلي.
وكان موقع "انكيفادا" الاستقصائي التونسي قد نشر مجموعة من التحقيقات المفصلة حول الجهات التونسية المتورطة في عمليات تهريب الأموال إلى بنما والجزر العذراء، بناء على معطيات "أوراق بنما".
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. تشكيك ودعوات للتحقيق في "وثائق بنما"
تحقيق دون نتائج!
بعض المراقبين للشأن التونسي يذهبون إلى أن هناك محاولات لإهمال ملف تسريبات أوراق بنما من قبل الحكومة التونسية
لكن بعد مرور عام كامل منذ بداية التحقيق في تونس بخصوص الجهات المشتبهة في قضية "أوراق بنما"، لم تخرج إلى اليوم نتائج هذا التحقيق، كما لم يتم لحد الآن توجيه تهمة إلى أي طرف من الأطراف الواردة في الوثائق.
وعلى الرغم من أن مثل هذه الجرائم المالية المعقدة، تتطلب وقتًا للبت فيها، نظرًا لكونها تحتاج إلى إجراء تحقيقات قضائية واختبارات فنية وتقنية للوثائق، بالإضافة إلى تنسيق دولي، حيث أن تهريب الأموال يتم خارج الحدود، إلا أن عددًا من المراقبين للشأن التونسي يذهبون إلى أن هناك محاولات لإهمال هذا الملف من قبل الحكومة التونسية.
وفي هذا الصدد، كان موقع "انكيفادا" الاستقصائي قد أعدّ تحقيقًا استقصائيًا بعد خروج تسريبات بنما بشهر، تحت عنوان "أوراق بنما: معركة الصلاحيات بين البرلمان والقضاء"، يحذر فيه من أن الصلاحيات القانونية التي أعطيت للجنة البرلمانية التونسية المكلفة بالتحقيق في أوراق بنما، تزاحم سلطات القضاء وتنتهك سرية المصادر لدى الصحفيين، ما حوّلها إلى محكمة موازية للقضاء، قد تعمل على تمييع التحقيق في جدية متابعة الفاسدين الكبار، خاصة وأن الأغلبية الساحقة لأعضاء اللجنة ينضوون تحت أحزاب الحكومة.
ويتهم البعض الحكومة التونسية بتقاعسها في مكافحة الفساد بشكل عام، ولاسيما مواجهة "رؤوسه الكبار"، وذلك بعد أن تراجع ترتيب تونس في لائحة الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، من المرتبة 59 في سنة 2010 إلى المرتبة 75 عالميًا في 2016، وهو ما فسّره شوقي الطبيب، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، بأن "بارونات الفساد اخترقوا بأموالهم وزارتي الداخلية والمالية، والجمارك والقضاء ووسائل الإعلام ومجلس النواب والأحزاب".
فيما يذهب آخرون إلى أنه ليس هناك إرادة سياسية من طرف الحكومة لمحاربة الفساد بشكل جدي لهواجس حزبية واقتصادية، خاصة وأن هناك سياسيين وكبار رجال أعمال تونسيين من ضمن المشتبهين، ومن ثمّة لا توفر الحكومة الموارد المالية والبشرية اللازمة للبتّ في مئات ملفات الفساد المكدسة، التي تنتظر دورها في التحقيق، حيث يعمل في القطب القضائي المالي أقل من عشرة قضاة وعدد محدود من المساعدين والإداريين، الشيء الذي يفسر بطء القضاء التونسي الشديد في التعامل مع قضايا الفساد.
وفي انتظار نتائج تحقيق السلطات التونسية في الجهات المشتبهة الواردة في أوراق بنما، تستمر التجاذبات السياسية في الحرب على الفساد، كساحة لتصفية الحسابات الحزبية، ولإلهاء الرأي العام التونسي بفرقعات التحقيقات غير المجدية، عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية.
اقرأ/ي أيضًا: