لطالما حاولت الشعوب تفسير الموت؛ وَسَعت للوصول إلى فهمٍ يُخفّف الرعب الكامن في الغياب والفقدان اللذين يخّلفهما وراءه، ولأجل هذا فالفكرة المُتفق عليها في مُختلف الحضارات أنّ الموت اعتداءٌ سافرٌ على الحياة، وأنّ كل ميْتَةٍ جريمة قتل!
رغم الطقوس المقدسة التي رافقت تطهير أجساد الموتى إلا البشر لم يتوقفوا عن البكاء والندب
ولتخفيف هَولهِ راحت المجتمعات التقليدية تراهُ ولادة ثانية، لا تَحدث دون خلقها على نحوٍ طقسيّ، فالولادة الثانية رمزيّة. وعلى الرغم من أن هذه الطقوس خلّفت تراثًا جنائزيًا هائلًا، لكن بقيت هناك ازدواجية تحكم موقف البشر من الموت، كما يُشير مرسيا إلياد، ففي طقوسهم المقدسة التي يَبغون منها تطهير الجسد الميّت لم يستطيعوا التخلّي عن الحُزن والبكاء، إن لم نَقل العويل وضرب الذّات.
اقرأ/ي أيضًا: العزاء بين قهر الموت وتحمل مرارته
في كتابهِ "الموتُ والعالم الآخر في مِصر القديمة"، يُجمل عالم المصريات الألمانيّ يان أسمان الأفكار المصرية القديمة حول الموت في الآتي:
1- عُدوانٌ على الجَسد.
2- تحلّل وعُزلة لأنّ المصريين القدامى رأوا أن الحياة ترابطٌ بين أعضاء الجسد، والموت هو تحلّل وتقطيع وعَزل هذه الأعضاء عن بعضها البعض.
3- تَفكّك، لأنّ الجسد يذهب إلى مكان والروح إلى مكان آخر.
4- إنه عبورٌ، وما القبور غير ممرّات بين عالمَين.
5- الموتُ رحلة إلى الحياة الأبدية.
أما في الفن والثقافة فللموت صور أخرى، فها هو المعري يحسم بأن العالم مقبرة: "خَفّف الوطء ما أظنُّ أديم/ الأرضِ إلّا من هذه الأجسادِ".
من يقرأ المجموعة الشعرية "مرايا العابرات في المنام" لجمانة حدّاد حيث تتقمّص فيها دزينة شاعراتٍ انتحرت كل واحدة منهنّ بطريقة مختلفة، سيقع في فخّ كتاب يقول دون أن يقول: أيّها القارئ الذي لم يَختر حياته فَلتختر موتك.
في فيلم "الختم السابع" لإنغمار برغمان، يظهر الموت شخصية حقيقيةً من أجل أن يفاوض البطل العائد من الحروب الصليبيّة. يَتّفقان على لَعب الشّطرنج. يفوزُ البطل ويُمدّد حياته بضعة أيام، وهكذا تتوالى مُبارزات الشّطرنج، وينجحُ البطل في تأجيل ساعتهِ إلى ساعةٍ أخرى، لكنه سوف يَصل إلى تلك السّاعة التي لا تقبلُ تأجيلًا، فيأخذهُ الموت هو وصَحبه، ويرقصُ معهم عند خطّ الأفق رقصةً جنائزية، ولعلها واحدة من أجمل الرقصات التي عرفتها الشاشة الكبيرة.
في فيلم "الآخرون"، تنقلبُ الآية ويصبح الموتى هم العائشون، بينما الأحياء أشباحًا مرعبة، ويالها من فكرة! كأن الفيلم يرمي إلى القول: أيّها الأحياء أفسِحوا المجال للموتى، لا تُقلِقوا راحتهم.. ألا تذكرون أن الموتى (الأم والطفلان والخدم) كانوا يُسمون الأحياء بـ"الدُّخلاء"؟
في فيلم "الختم السابع" لإنغمار برغمان، يظهر الموت شخصية حقيقيةً من أجل أن يفاوض البطل العائد من الحروب الصليبيّة
لكنّ أكيرا كوروساوا يُقدّم اقتراحًا مختلفًا في تُحفته "أحلام" حيث يقدّم أربعة أحلام جميلة، مقابل أربعة كوابيس، وكلُّ مقطع منها هو فيلم بذاته لا يجمعه بسواه إلا كونه حلمًا راود الفنان. المهم في هذا العمل الجبّار المقطع المسمّى "قرية الطواحين المائيّة"، ففي قرية ساحرة، ذات طبيعة أسطورية، تجعلك تشكُّ بوجودها على الأرض، يلتقي شاب متجوّل بعجوز، ويبادله الحديث، ورويدًا رويدًا، يتحوّل الحِوار إلى ما يُشبه قصيدة، خصوصًا في ما يصدر عن العجوز الذي يتحدّث عن رفضِ قريته لكل المُنجزات الحديثة: الكهرباء والوقود والآلات.. ويقول: "العُلماء أكثر الناس ذكاءً، لكنهم لا يفهمون جوهر الطبيعة، إنهم يخترعون الأشياء التي تجعل الناس تُعساء في النهاية، والغريب أنهم فخورون".
اقرأ/ي أيضًا: مقاومة الموت
يسمعُ الشاب صوتَ احتفال فيستفسر من مُحدٍّثه عن الخَبر، "إنها جنازة" يقول المُسنّ، ثم يُضيف مُمعِنًا في إبهار الشاب: "لكنها جنازة سعيدة، فالجنازة في هذه القرية السّحرية شكرٌ لك على حياتك، الجميع يشاركون فيها بالغناء والرقص والعزف، دون وجود مَعبد وقَساوسة"، وقبل ذهابه لـِ"الاحتفال" بالميت يُخبره بأنّ هذه الجنازة لامرأةٍ شاءت الصدف أنها حُبّه الأول، لكنها حطّمت قلبه وَذهبت إلى رجل آخر.
أمّا مَشهد الجنازة فلا يمكن وصفه، لأنّه من ذلك النوع الذي يستعصي على القول ولا يُدرَك بوسيلة غير المشاهدة.
في هذه الصور وغيرها، نحنُ صور المَوت.. دَقِقوا النّظرَ في المَرايا سَتجِدونها خاليةً تمامًا مِنّا.
اقرأ/ي أيضًا: