هذه المقالة ترجمة بتصرّف لمقالة المؤرّخ الهنديّ والأستاذ في جامعة ساوث كارولينا دينيار باتيل، وهو باحث مختصّ في نشوء الحركات الوطنيّة في شبه القارة الهندية.
سيكون هذا الصيف قائظًا في الهند، وملايين الناس في أرجاء البلاد ينالهم من مشقّة العيش والجوع في هذه الظروف الصعبة ما ينالهم. ولكن في هذا الصيف تحلّ ذكرى قد تكون أشدّ ألمًا في التاريخ، فقد مرّت 150 سنة على أفظع المجاعات التي شهدها العالم الحديث، وهي مجاعة أوريسا على الساحل الشمالي الشرقي للهند عام 1866.
كان الحكم البريطاني الاستعماري في شبه القارة الهنديّة أحد أهمّ الأسباب التي جعلت الناس يقضون جوعًا
قد لا يذكر الكثيرون هذه المجاعة اليوم، بل وتكاد كتب التاريخ الهنديّة نفسها تمرّ عليها مرور المتغافل على موائد التاريخ المليئة بالقتل والفظائع والاستغلال. مائة وخمسون سنةً على هذه المجاعة التي راح فيها أكثر من مليون إنسان شرقيّ الهند، ولن يستذكر الموتى اليومَ أحدٌ، فالجوع مرّ والحزن لن يكون ذا جدوى لدى الكثيرين.
اقرأ/ي أيضًا: رواية 1984.. التحفة الأدبية التي قتلت جورج أورويل
قد كان الحكم البريطاني الاستعماري في شبه القارة الهنديّة أحد أهمّ الأسباب التي جعلت مثل هذا العدد من الناس يقضون في الجوع حينها. فشركة الهند الشرقية قد تسببت بعد إنشائها بإغلاق العديد من مصانع النسيج المحليّة، ودفعت الكثير من الناس للعمل في الزراعة، وصارت حياتهم تعتمد على رحمة السماء، وكانت حينها نزيرة، فموسم المطر كان ضعيفًا والمياه شحيحة.
وقد نشرت الصحافة الهندية والإنجليزية عام 1865 مقالات تحذّر من ارتفاع الأسعار وندرة المحاصيل وعجز الفلاحين عن شراء الرز. إلا أنّ الإدارة الاستعمارية في الهند لم تحرّك ساكنًا، بل وكانت الفكرة السائدة حينها أنّ تدخّل الحكومة في ظروف المجاعات لا يجدي نفعًا وقد يعود بالضرر على الناس، لأنّ المجاعة في رأيهم فرصة كي يستعيد السوق توازنه، فارتفاع/رفع نسبة الوفيّات بين الفقراء كما رأى توماس مالتوس هي حكمة الطبيعة أمام زيادة عدد السكان وما يرافقه من طلب على الموارد.
لقد استخدم المستعمر البريطاني هذا المنطق قبل عقدين من هذه المجاعة في أيرلندا، حين ارتأت الحكومة البريطانيّة أنّ منع المساعدة عن الجوعى هو أفضل سبيل لمساعدتهم.
متأخرة جدًّا، عفنة جدًّا
لقد كان ضبط الأسعار الباهظة للمحاصيل يعدّ تدخلاً في قوانين الاقتصاد الطبيعي. فقد قال الحاكم الإنجليزي لأوريسا (المعروفة اليوم باسم أوديشا) أثناء المجاعة: "لو حاولت ضبط الأسعار فلن يبقى ثمة فرق بيني والسارق أو قاطع الطريق." وعليه فقد قرّر هذا السيد الإنجليزي ترك المنطقة والذهاب إلى كُلكتا وراح بنفسه يعيق الجهود الخاصّة الرامية لمدّ العون للناس في أوريسا.
كان ثمن التبجّح البيروقراطي للمسؤولين الإنجليز هو حياة مئات الآلاف من الناس في الهند
في أيار/مايو 1866 وصل الأمر حدًّا لم يصلح معه التجاهل، فقد وجد المستعمر الإنجليزي أنّ المجاعة امتدّت لتصيب الجنود والضباط الهنود، وصار الناس في منطقة بوري يحفرون الخنادق لدفن الموتى في قبور جماعية.
اقرأ/ي أيضًا: لا إبهامَ في "غامض مثل الحياة"
وبعد أن تسرّبت القصص الفظيعة للموت والشغب في أوريسا ووصلت الأنباء إلى لندن وكلكتا، بدأ السيد بيدون حاكم أوريسا بنقل بعض شحنات الرز هناك، ولما بدأت الشاحنات تتحرّك، راحت الأمطار تنهمر فأعاقت وصولها إلى الناس. والحقيقة هي أنّ الإغاثة التي أرسلت كانت قليلة جدًا، ومتأخرة جدًا، وعفنة جداً، وكان ثمن التبجّح البيروقراطي للمسؤولين الإنجليز هو حياة مئات الآلاف من الناس.
لقد دأب عدد من المثقفين الهنود الذين درسوا في الغرب على اتهام الاستعمار الإنجليزي بإفقار دولتهم ونهبها وتجويع أهلها، وكانت مجاعة أوريسا أجلى دليل على هذه التهم. وقام الناشط القوميّ الهنديّ، دادابهاي ناورجي، ببدء مشروعٍ طويل أخذ فيه على عاتقه أن يكشف عن تاريخ إفقار الهند على يد المستعمر.
وحين انزاح شبح المجاعة عام 1867 بدأ ناورجي بنشر التقارير التي يرى فيها وفق "نظرية الاستنزاف" أنّ بريطانيا كانت تثري وتعتاش على دم الهند واستنزاف مواردها. ويقول ناورجي: "صحيح أنّ ظروف الحياة قد تحسّنت الآن، ولكن ماذا يساوي هذا أمام موت مليون ونصف إنسان في مجاعة واحدة؟".
اقرأ/ي أيضًا: نيرودا وماركيز.. قصة دردشة معلنة
المستعمر لا يكترث
لقد كان كلام ناورجي واضحًا كعين الشمس: لمَ تترك الحكومة الناس يموتون جوعًا مع أنّ لديها ما يكفي من الغذاء لإنقاذهم؟ فقد مات أكثر من مليون شخص في أوريسا عام 1866، وهو العام الذي صدّرت فيه الهند ما يتجاوز قيمته 200 مليون باوند من الأرز إلى بريطانيا، ولم تكن هذه هي المرّة الوحيدة التي تتصرّف فيها حكومة المستعمر بهذا الشكل في ظروف مماثلة.
مات أكثر من مليون شخص في أوريسا عام 1866، وهو العام الذي صدّرت فيه الهند ما يعادل 200 مليون باوند من الأرز إلى بريطانيا
فقد تكررت المجاعات في الهند عام 1869 و1874، وقد مات بين عامي 1876 و1878 في مجاعة مدراس ما يقارب خمسة ملايين إنسان. والسبب هو أنّ اللورد ليتون قد تعامل مع هذه المجاعة كما تعامل أسلافه من قبل مع مجاعتي أوريسا وأيرلندا.
حدوث المجاعات في الهند متواتر. ففي عام 1901 أحصى الناشط الهندي روميش دات عشر مجاعات مهلكة منذ ستينيات القرن التاسع عشر، ووصل مجموع عدد الموتى بسبب الجوع 15 مليون إنسان. لقد كان الهنود فقراء معدمين، وحكومة الاستعمار لا تأبه لأمرهم، حتّى صارت السنة التي تشحّ فيها الأمطار تعني بالضرورة وقوع مجاعة جديدة.
ولا تزال مواسم الجفاف تهدّد الفقراء في الهند، ولا يزال بعض المسؤولين يغضّون طرفهم عن معاناة الناس وجوعهم، بعد 150 سنة من مجاعة أوريسا والمجاعات التي تلتها. لكنّ المحكمة العليا في الهند قد أصدرت مؤخرًا قرارًا بوضع سياسة وطنيّة لمواجهة الجفاف في البلاد، ولعلّ تطبيق هذه السياسة على الأقل يكون أفضل طريقة لتذكّر مجاعة أوريسا ومن مات فيها قبل قرن ونصف من الزمن.
اقرأ/ي أيضًا: