توفيت تايونا صرّاف، 7 أعوام، بعد اصابتها برصاصة طائشة، مجهولة المصدر، عندما كانت تلعب أمام منزل العائلة، في بلدتها منيارة، في قضاء عكار، شمال لبنان. وكانت الطفلة قد نُقِلت إلى إحدى المستشفيات، لكنها سرعان ما فارقت الحياة. ونقلت "الوكالة الوطنية للإعلام" أن حالة من الحزن والغضب تسود بين أبناء البلدة، وعائلة الضحية، وأنهم طالبوا الأجهزة الأمنية بالتحقيق في الحادثة، وبكشف مطلقي النار ومعاقبتهم، لكي لا يدفع الأبرياء مرةً تلو الأخرى ثمن تفلت السلاح المنتشر، وإطلاق الرصاص العشوائي في جميع المناسبات". وكانت الطفلة زهراء طليس، 4 أعوام، قد سبقتها إلى السماء، قبل بضعة أيام، متأثرة بلدغة عقرب سام، عندما كانت هي أيضًا منزل العائلة، تلعب، بعد فشل اللبنانيين جميعهم، بمن فيهم دولتهم، على تأمين ترياق، أو علاج بسيط لجسدها الصغير. بعد 3 أيام من الحادثة، توفيت زهراء، أمام أعين العالم، الذي تفرّج.
ينقل الصحافيون الأخبار، يُكتَب ما يُكتَب. يشجُب من يشجُب. ويتضاءل عدد المعترضين كل مرة، ويبدو أن سلوكهم هذا بات متوقعًا، ويمكن تفسيره بشيء من الاستسهال
لم تظهر صورة إحدى الطفلتين على الصفحة الأولى في الصحف المحلية، ولم تبدأ نشرة الأخبار من هنا أو من هناك. بدأت من حيث توقفت، من القيء نفسه. سرعان ما فارقت الطفلتين الحياة، ولا نعرف إلى أي درجة تألمت قبل أن تغلق عينيها. ولا نعرف من أطلق النار، ومن أين جاء العقرب. ونخشى أننا نعرف أننا لن نعرف.
اقرأ/ي أيضًا: اللبنانيون يحمّلون دولتهم مسؤولية انفجار عكار
ينقل الصحافيون الأخبار، يُكتَب ما يُكتَب. يشجُب من يشجُب. ويتضاءل عدد المعترضين كل مرة، ويبدو أن سلوكهم هذا بات متوقعًا، ويمكن تفسيره بشيء من الاستسهال. عندما تموت طفلة نحزن، ولكن يبدو أننا مثل الرصاص الطائش ومثل العقارب. كل ما نفعله هو أننا نتفرّج، وأحيانًا نتذمّر على كوننا مجرد متفرّجين. وإذا بالغنا قد نتذمّر من التذمّر، قبل أن نسأل أنفسنا ما الفائدة من كل هذا، وننتبه إلى أنه في حالتنا، حيث تكثر المآسي، وحيث تشتعل الحرائق وتحدث المجازر، بيننا وحولنا منذ أعوام الطويلة، يتضاءل تأثير الحزن. نعاود حياتنا كما كانت، كرصاص طائش وكعقارب. نصطاد بعضنا البعض، ونلدغ أنفسنا يوميًا بصمت. لكننا في النهاية لسنا أطفالًا، ونعتقد أننا نتصرف كالكبار. الأبوية مثل السُلطة، علاقات يومية ودينامكية، أحيانًا ننتبه وأحيانًا لا ننتبه. وما نفعله بالضبط، هو أننا نتابع كل شيء كما كان، متذرعين بأن الأطفال سيذهبون إلى الجنة في النهاية، وكأن هذا يسوّغ حدوث كل شيء، بمجرد أننا لم نطلق النار بأنفسنا، أو أن أقدامنا أكبر قليلًا من قدم زهراء، وذلك كان سيكون كافيًا للدوس على العقرب السام، فننجو. ما نفعله هو الحزن، لكي نتأكد أن الأمر حدث مع آخرين أضعف منّا، وأننا نجونا فعلًا.
نتابع الحياة. تتوقف الكلاب عن النباح قرابة الواحدة فجرًا، وهذا يعني أن الطقس لم يعد حارًا كما يكون في ساعات الليل الأولى. تكف عن التذمر عندما تتعب، وعندما تكتشف أن درجة الحرارة لا تتأثر بأصواتها. وإذا استمر النباح حتى طلوع الضوء فهذا يعني أنها جائعة. لا يختلف الأمر كثيرًا في هذه الحالة بين الكلاب الشاردة في شوارع المدينة، وبين الكلاب البرّية التي تنفق أعمارها في الأودية غير المأهولة. الكلاب هي الكلاب. الفارق بين المدن والأودية يتمثل بقدرة الجغرافيا على ابتلاع الأصوات وإعادة تدويرها. بشكلٍ عام يُبقي الجوع الحيوان مستيقظًا، لكننا لن نعرف إلى أي درجة يمكن أن يصل الجوع. لا يوجد مقياس للجوع لكنه كافٍ لأن يستوفي اسمه دائمًا. الجوع هو الجوع. الشيء الذي يمنع الحيوان من النوم. ولا نعرف أيضًا الدرجة التي يصل إليها التذمر، فالتوقف عن النباح لا يعني القبول أو الموافقة، بل ربما يكون الصمت المفاجئ "مجرد تعب". لا نعرف أين بالضبط، في جسد الحيوان، يحدث الجوع. في القلب، في الحنجرة، أو في كامل الجسد. إنه شيء مثل الأعصاب، يشعر به الكلب عندما يُستنزف، وعندما يتراجع النباح، فهذا يعني أن صاحبه يوافق على الهزيمة. وعندما يتوقف الصوت، فهذا يعني أنه استسلم، استسلم تمامًا.
استنزف الجوع الجميع. المعترضون والذين أعلنوا يأسهم. وبدأت أصواتهم تتراجع، إلى درجة الاستسلام
اقرأ/ي أيضًا: محنة الهوية اللبنانية وأثرها الذي لا يمحى
استنزف الجوع الجميع. المعترضون والذين أعلنوا يأسهم. وبدأت أصواتهم تتراجع، إلى درجة الاستسلام. يمكننا، عندما نجوع، أن نفهم، ما الذي كان يدور في رأس غونتر غراس، عندما كتب "سنوات الكلاب"، أكثر من أي وقت مضى. لم يكن الكتاب محاولة لتأريخ الجوع بمعناه المتداول، ويندر أن يمرّ مصطلح الجوع بين السطور. لكن ثمة جوع لكل شيء. جوع للحرية وجوع من أجل الحياة. جوع لتناول المدينة، وجوع مثل جوع الأشجار، للشمس والهواء والمطر. جوع للغناء، ولأن ندندن، حتى لو لوحدنا، لحنًا مسروقًا من فكرة، أو من الخيال. نجوع لكي نتأكد أننا لم نيأس بعد، وأن هذا الشعور يعني أننا لم نستسلم. ليس الجوع مصطلحًا أجوف، وليس الطعام ما يجعلنا بشرًا. لكنه مثل النوم، على الأرجح، ما يجعلنا كائنات حيّة من الناحية البيولوجية. وليست الحرية بالتحديد هي التي تجعلنا بشرًا، إنما التفكير بالحرية. لا وجود للأفكار خارج الوعي، والوعي هو طريقنا الوحيدة إلى الخلاص. لكن البحث عن الخلاص يمزّق حيوان القلب الهش. يقتلنا كرصاص طائش يأتي من كل حدب وصوب. يلدغنا عقرب الوقت، ولا ترياق.
اقرأ/ي أيضًا:
سنة على انفجار مرفأ بيروت.. غياب للحقيقة وعراقيل أمام العدالة