هنا نص للكاتب والشاعر الجزائري بالفرنسية محمد ديب مأخوذ من كتابه "الشجرة الناطقة" الذي يتناول فيه مواضيع متعددة كالهوية والمنفى واللغة والعودة.
يدرك المرء أن ثمة رحلات منظمة، والأخرى ليست بالضرورة غير منظمة، بيد أن هناك ترتيبًا للذات مع احتمال غير مؤكد للمخاطر، ويتم تناول قراءة الكتاب بطريقة متشابهة. ولا شك أن لكل من الصيغتين مزاياهما، أما اليوم فيبدو من بعيد أن هناك تفضيلًا أكثر فأكثر للصيغة الأولى، ونعني بذلك القراءة المنظمة، ليحرم القارئ آنذاك نفسه من متعة الاكتشاف والمغامرة، لكن هل هناك اختيار آخر؟
ينظر إليك الزمن بعين سيئة، تسافر بطريقة أخرى. فما عاد الناشر اليوم، ذلك السيد الذي يكتفي بأن يقترح عليك أسفارًا
ينظر إليك الزمن بعين سيئة، تسافر بطريقة أخرى. فما عاد الناشر اليوم، ذلك السيد الذي يكتفي بأن يقترح عليك أسفارًا (على ظهر صفحات الكتب)، فهو يدير أيضًا وكالته، أود القول خدمة صحفية ترشدك في هذه الأسفار، وهي في ذات الوقت خدمة ترويجية. فهو لا يبيع إذًا الكتب فحسب بل يبيع تعليمات أيضًا. تعمل الجرائد والإذاعات والتلفزيونات والملصقات على نقل عمله، وتتعجل وسائل الإعلام في مجملها إلى مد يدي العون، بمنحه دعمهما بقدر ما يفترضون عليه من مال.
لا يزال السذج وحدهم، وعلى الرغم من خضوعهم لإغراءات الحوافز الشرائية، يعتقدون أن المجال الثقافي بمنأى عن الطابع المادي العام الذي يجعل من الكتاب في مرتبة المنتوج راغبًا – عدد النسخ وأشياء أخرى – في أن تكون الأداة التسويقية التجارية هي المعيار الذي يتوجب أن نثمن به قيمة عمل أو منتج عقلي.
أكثر فأكثر يتضح، أن لا شيء هناك غير عادي. ففي عصر الإشهار، قد تكون التجارة فنًا، ولم لا؟ وقد اكتشفنا ذلك بشكل أفضل في مجال الكتاب: والفكرة أن ما سيكون أكثر أهمية وأكثر أصالة، هو أن يُجعل من الكاتب نفسه مرشدًا داخل إبداعه. الأمر متعارف عليه. سيكون غير مفهوم اليوم ألا يخضع كاتب لمثل هذا الاستعراض. يتوجب قول ذلك ببهجة، فالكثيرون من بين هؤلاء الذين يقومون به. مرشدون يقترحون عليك حلقات داخل أقاليمهم الأدبية، حينما لا يكون ذلك داخل حياتهم الشخصية، وهذا من كتاب إلى كتاب.
أن يأمل في كاتب أن يكون كاشفًا ودليلًا داخل عمله الشخصي، فذلك بكل موضوعية ارتكاب لخطئين. إذ يتجلى الخطأ الأول بوضوح أكثر في حرمان النفس من مباهج الاكتشاف، ومنعها من القذف بها وبكل ما أوتيت من طاقة في منعطف منفرد، ألا يتطلب هذا جسارة؟ على الأرجح نعم.
أما الخطأ الثاني، والأقل تجليًا، أن كلَّ كتاب يفر من مصممه في جانب ما. فما الذي يمكن أن يقوم به الكاتب حين يضطلع بوظيفتين مزدوجتين؟
يعيد إنتاج عمله في الوقت الذي يتحدث فيه عنه، إذ ليس بإمكانه منع نفسه من ذلك، طالما أنه لم يعد في ذات الظروف التي ألفه فيها. إنه يحفظك من أي شيء إلا من الشيء الذي تحمله بين يديك. في الواقع الكاتب يشبهك فهو قارئ أمام عمله. يغدو عمله غريبًا عنه، غامضًا، أي لا يمنحه أسرارًا أكثر منك. إذ يختلق قصة حوله، ولكن تخيلًا فقط، ومن المرجع أن يكون الأمر مثيرًا للاهتمام.
ما تتوجب معرفته، أيًّا كان العمل، وحتى إن كان آخر ما أنجز، فهو أن مؤلفه تركه بعيدًا في الخلف، ويكون قد انخرط فعليًا في إبداع مستقبلي، يجعله غير مبالٍ بإبداع سابق.
ثمة كلمات قوية ولا تندثر للممثل والمخرج كلينت إيستوود حول الأفلام التي كان يخرجها بنفسه: "لست قلقًا بشأن إعجاب آكلي الذرة فسيكونون أربعين مليونًا".