دخل الاحتلال الأمريكي إلى العراق عام 2003، وعمل على شرعنة وجوده برفع غطاء الاستبداد، غير أنه على ما يبدو لم يكن مهتمًا بالاشتباك مع جذور الدكتاتورية، وتجلياتها على مستوى السياسة والثقافة والتمايزات والانقسام، فتركها تأخذ مسارها بين الجماعات العراقية التي لم تكتمل الهوية الوطنية عندها، والتي خرجت من حصار مدمر استمر 13 عامًا.
دخلت المؤسسات الإعلامية الأجنبية إلى العراق بعد 2003، فكانت داعمة لنظام المحاصصة فضلًا عن دعمها للاحتلال الأمريكي
ووضع الاحتلال الأمريكي نظام المحاصصة، ليفرز فيما بعد حربًا أهلية، استمرت لأعوام، وكان القتل فيها بشكل أساسي على الهوية. وكما يتضح، انبنى على ذلك انعدام للنظام وتجلياته من الاستقرار والحراك السياسي الوطني، غير أنه أفرز ديمقراطية شكلية، تجلت في فضاء الإعلام.
اقرأ/ي أيضًا: شبكة الإعلام العراقي.. صراع التجديد والمُحاصصة
ودخلت المؤسسات الأجنبية، خاصة الغربية منها، بعد 2003 إلى العراق، كجزء من الانفجار الإعلامي الذي ظهر على الساحة العراقية بعد حرمان طويل، فكانت داعمة لنظام المحاصصة، فضلًا عن دعمها للاحتلال الأمريكي ووقوفها ضد خيارات المقاومة والاستقلال. واستمر هذا الأمر إلى أن ظهرت منصات التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوك، الذي يستخدم في العراق أكثر من منصات السوشيال ميديا الأخرى.
وتحاول الأحزاب ومعها أصحاب المشاريع الإقليمية، إضافة إلى الغربية، السيطرة على فيسبوك، كونه أصبح النافذة الأكبر لعامة الشعب، للاطلاع على السياسة ومناقشتها وتبني الآراء فيها. ولأن القنوات التليفزيونية، لم تعد الأهم في العراق، باتت مواقع التواصل الاجتماعي هي الملجأ في محاولات التوجيه وصناعة الرأي العام.
وبالرغم من هذا، لم تستطيع هذه المشاريع بـ"جيوشها الإلكترونية" السيطرة على آراء الناس في هذه النوافذ الخاصة بالدرجة المعنية، إذ لم يعد الرأي محتكر على جهة معينة، وكل فرد يستطيع أن يطل من صفحته الشخصية ويكتب ما يشاء دون أن يملي عليه أحد.
نتيجةً لهذا أقدم أصحاب المشاريع على شراء نجوم فيسبوك، الذين يحظون بنسب متابعة كبيرة، لخلق رأي إلكتروني موحّد، بالإمكان أن يحرّك الرأي العام. وثمة مشاريع غير معلنة، وهي ما يطلق عليها في العراق "الجيوش الإلكترونية"، وهناك مشاريع معلنة، خاصة الغربية ، مثل معهد الحرب والسلام، والصفحات التابعة له على السوشيال ميديا، مثل صفحة "يلا"، وهي معلنة ويتم الترويج لها بشكل مستمر.
مأزق المشاهدات والتفاعل
ونشر موقع معهد الحرب والسلام، في نيسان/أبريل 2016، مادة كشف فيها عن مشروع يهدف فيه إلى "رفع الوعي الاجتماعي حول قضايا حرجة مثل التعايش ومكافحة التطرف"، مشيرًا إلى أن "عشرات الصحفيين العراقيين وكذلك عاملين في منظمات غير حكومية، تم تدريبهم في معهد صحافة الحرب والسلام من الوصول إلى جمهور مذهل، يقدّر بحوالي 18 مليون شخص خلال نشاط هؤلاء العاملين في وسائل الإعلام الاجتماعية".
ولفت معهد الحرب والسلام إلى أنه "وفقًا للتقرير التحليلي للعراق، الصادر عن معهد صحافة الحرب والسلام، فقد قام 42 مشاركًا بإنشاء أكثر من 5100 محتوى من محتويات وسائل الإعلام الاجتماعية، وجذبوا نسبة نمو قدرها 70٪".
وقال المعهد إنه "قام باختيار مجموعة من المتدربين من بين 120 شخصًا شاركوا في دورة (بلدنا.. مسارنا) وهي ورشة عمل تعمل على إنتاج محتوى موثوق على شبكة الإنترنت، لرفع الوعي بالقضايا الحاسمة مثل التعايش ومكافحة التطرف"، مبينًا أنه "في نهاية كل شهر، يتلقى المتدربون الذين أحرزوا أفضل النتائج على المحتوى وكذلك مقاييس البيانات منحًا نقدية".
وفي دورات معهد صحافة الحرب والسلام، يتم اختيار المدونين والصحفيين وأصحاب الرأي على مواقع التواصل الاجتماعي، والذين يستطيعون أن يصنعوا محتويات تفاعلية جيّدة الانتشار، ليتعاقدوا في المعهد، ويأخذون عن منشوراتهم في فيسبوك رواتب شهرية، ويكتبون بوسوم موحدة، مثل "#خل_نتصافى" و"#رسائل_إلى_الموصل" و"#خذ_نفس" و"#عاشت_ايدك". ومعايير المدون الأفضل ليس في جودة المنشورات من عدمها، إنما في الوصول الأكبر في نسبة التعليقات والإعجابات.
ويُطلق المعهد وسوم معينة، فيكتب فيها المدونين طلبًا للتفاعل واستقطاب الناس إلى صفحاتهم. غير أن المشكلة التي يقع فيها المدونين والمستكتبين لحملات المعهد، كما أشار مستخدمون لفيسبوك، هي تحوّل صفحاتهم بالتدريج لصفحات استهلاكية، كونهم يستمرون في كتابة المنشروات التي تستهدف الوصول لأكبر عدد من المتفاعلين، وبشكل يومي، بعيدًا عن جودة المحتوى، وجدية النقاش في القضايا المرتبطة بالمشكلات الجذرية التي يواجهها المجتمع العراقي.
تدجين الشباب
وفي المشاريع الإعلامية الغربية، مثل معهد صحافة الحرب والسلام، والتي تستهدف شريحة الشباب بشكل أساسي، فإنها بطريقة ما تعمل على تدجينهم وتحويلهم إلى أدوات لاستجداء التفاعل.
انطلقت الاحتجاجات في العراق منذ 2011، لتستمر، مع انقطاعات متتالية، حتى احتجاجات 2018، وبحسب مدون يعمل في معهد الحرب والسلام، فضل عدم الكشف عن هويته لأسباب تتعلق بعمله، فإن "المعهد لا يرغب بقضايا الثورات والاحتجاجات والتغيير الناتج عنهما أو دعمهما بأي شكل من الأشكال، وإنما يوجه بالمسير وراء طريق الانتخابات السلمي".
وبحسب المدون فإن معهد صحافة الحرب والسلام، يخصّص ميزانيات مالية كبيرة لهذا الأمر، مشيرًا لما حدث بالتوازي مع انتخابات أيار/مايو 2018، التي قاطعها كثير من العراقيين، وعرفت نسبة مشاركة لا تتعدى 50%، إذ أطلق المعهد وسم "#لا_تكعد_بالبيت"، للحث على المشاركة في الانتخابات وعدم مقاطعتها. وقوبل الوسم آنذاك بموجة سخرية واسعة على السوشيال ميديا من النشطاء المؤيدين لمقاطعة الانتخابات.
تستهدف مشاريع الإعلام الغربي على فيسبوك العراق، أساسًا تدجين الشباب وتحويلهم لأدوات لاستجداء المشاهدات والتفاعل
في المقابل، وفي أثناء احتجاجات البصرة التي استقطب التفاعل العالمي فيها الصحافة والمنظمات الحقوقية، لم يتفاعل المعهد مع الاحتجاجات بأي شكل عبر مواد أو وسوم كالتي يطلقها عادةً.
وتحوّل المدونون في مشاريع الإعلام الغربي، والذين كانوا متفاعلين في السابق مع السياسة وقضايا المجتمع الجذرية.. تحولوا لأدوات تكتب لتحظى بنسب عالية من التفاعل، مقابل المال. وتوجهوا وفقًا لسياسات المؤسسات والمشاريع التي يعملون معها، إلى إثارة ودعم قضايا مثل التشجيع على الإيجابية ومواجهة السلبية وتمكين المرأة، وغير ذلك من القضايا التي لا تشتبك مع جذور المشكلة العراقية.
وفي تعاطيهم مع هذه القضايا، فإن الاشتباك معها يبدو غير جاد. فعلى سبيل المثال، في وسم #خل_نتصافى الذي أطلقه معهد الحرب والسلاب، والذي يتناول مشكلة الطائفية والسلم الاجتماعي، فإنه الاشتباك مع القضية يتم بطرق وعظية ومدرسية، دون محاولة تكفيك جذرية.
صناعة الأبطال لتوريطهم
وتستهدف هذه الصفحات المدعومة من مشاريع غربية، المشاهدات أولًا، بغض النظر عن أي اعتبارات تتعلق بالمحتوى، حتى لو أدى ذلك في أقل صوره، إلى خلق مآزق اجتماعية أو عائلية بصناعة نجومٍ وهميين، كأداة للحصول على أعلى نسب مشاهدات ممكنة.
وعلى ذلك رصد "ألترا صوت" نموذجًا على صفحة "يلا" المدعومة بريطانيًا، لمحاولة صنع محتوى استهلاكي بتعريض الناس للإساءة، وهو النموذج المتمثل في قضية أبرار، وهي فتاة تبلغ من العمر 16 عامًا، عرضت لها الصفحة مقطع فيديو مصور. وقالت عنها. "بسبب الكاميرا، أبرار من ديالي خسرت أهلها"، مع إضافة تفاصيل مثيرة في الفيديو.
أدى ذلك لحالة من الجدل على فيسبوك، وتعرضت الفتاة على إثره للكثير من الإساءات. لكن المفاجئة حين نشرت الفتاة منشورًا أوضحت فيه، أن كلمتها بخصوص "خسارتها لأهلها"، كانت عن طريق المزاح، مؤكدة أنها شددت على مصور الفيديو ألا يعرض هذه الكلمة لأنها تمزح فيها. ومع ذلك نُشر الفيديو دون أن تطلع عليه أولًا، فطلبت منهم مجددًا حذفه، لكن دون جدوى. مشيرة بنفسها إلى أن الغبقاء على مقطع الفيديو رغم ما يسببه لها من أذى، إنما هدفه جذب المشاهدات والتفاعلات.
ثمة الكثيرة من الأموال التي تصرف على التدوين والمدونين في مشاريع غير منتجة، ولا خدمية، بل تصنع الأزمات في كثير من الأحيان كما يتضح، فضلًا عن أنها غير معنية بالاشتباك الحقيقي مع مشاكل العراق الجذرية، وتجلياتها الأعنف ماديًا ومعنويًا في الشارع العراقي.
اقرأ/ي أيضًا:
الحرة تفرز طواقمها بين الالتزام بالمسار الإماراتي وتهمة "الطائفية"
غزو العراق.. تفتيت الهوية وإفقار الشعب في رحلة الكذب الأمريكي