قامت السلطات المصرية، خلال اليومين الماضيين، باقتحام وإغلاق عددًا من المؤسسات الثقافية؛ إذ اقتحمت قوة من هيئة الرقابة على المصنفات الفنية ومصلحة الضرائب ومباحث الأمن الوطني ووزارة القوى العاملة جاليري تاون هاوس ومسرح روابط، الواقعين في منطقة وسط القاهرة، وحققت مع العاملين فيهما، ثم أمرت بإغلاقهما. كما اقتحمت قوة من شرطة المصنفات مقر دار ميريت للنشر، وألقت القبض على أحد العاملين فيها، وصادرت بعضًا من محتويات الدار.
محمد هاشم: آن الأوان أن أبدي دهشتي الشديدة من قيام قوة، قوامها لواءان وعميد وضباط وأمناء شرطة، باقتحام مقر ميريت بحجة عدم وجود أرقام إيداع
اقتحام وإغلاق جاليري تاون هاوس ومسرح روابط، طرح عددًا من الأسئلة، منها؛ إذا كان هذا الاقتحام بسبب وجود نقص في الإجراءات القانونية والتراخيص اللازمة، فما الداعي إلى اقتحام المكان بهذه الطريقة؟ وما الداعي إلى مصادرة الحواسيب الموجودة في المكان، بالإضافة إلى مصادرة المواد الأرشيفية والوثائق والأقراص المدمجة الخاصة به؟
ويثير اقتحام دار ميريت أيضًا عددًا من علامات الاستفهام، عبر عنها مدير الدار، محمد هاشم، بقوله "آن الأوان أن أبدي دهشتي الشديدة من قيام قوة، قوامها لواءان وعميد وضباط وأمناء شرطة، باقتحام مقر ميريت بحجة عدم وجود أرقام إيداع، فمع اقترابنا من رقم يقترب من ألف عنوان عبر سبعة عشر عامًا من العمل المرهق، يبدو البلاغ تافهًا كالمخبر الحقير الذي قدمه، مضحك لفرط تدنيه، وتدني من اعتبرها تهمة تقتضي تحريك قوات، رغم أن الجهة المنوط بها التحقيق فى الأمر هي دار الكتب والوثائق القومية".
في الواقع، لا يمكن فصل اقتحام دار ميريت وإغلاق جاليري تاون هاوس ومسرح روابط، عن الحملة الشرسة التي تشنها السلطات المصرية على المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية المستقلة، هذه الحملة التي بدأت منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم، وتستمر حتى الآن.
"الفن ميدان".. أول الضحايا
بدأت عملية التضييق على الفعاليات الثقافية والفنية في آب/أغسطس 2014، عندما رفضت وزارة الداخلية منح القائمين على مهرجان "الفن ميدان" ترخيصًا لإقامته، ليدخل الأمر في دوامة من التصريحات والتصريحات المضادة والاقتراحات المرفوضة إلى أن انتهى الموضوع بتوقف المهرجان نهائيًا.
ويعد مهرجان "الفن ميدان" من أبرز الفعاليات الثقافية والفنية التي أفرزتها ثورة 25 يناير. وتقوم فكرة المهرجان على استغلال الميادين العامة، وأبرزها ميدان عابدين، في إقامة فعاليات فنية وثقافية مجانًا للجمهور. وينتمي أغلب القائمين على المهرجان والمشاركين فيه إلى المعسكر الثوري، ولعل هذا الانتماء والانحياز الذي عبرت عنه الفعاليات وضيوفها هو الدافع الأساسي لرفض إقامة المهرجان، رغم تأكيد وزراة الداخلية أن الرفض جاء لأن الوضع الأمني "لا يسمح".
"المورد الثقافي".. تغلق أبوابها
أعلنت مؤسسة المورد الثقافي وقف جميع أنشتطها ومبادراتها الثقافية والفنية في مصر في تشرين الثاني/نوفمبر 2014. بيان المؤسسة لم يحمل أسباب وقف النشاط، إلا أن مديرة المؤسسة بسمة الحسيني، أكدت في تصريحات صحافية، أن هناك حالة من التصيد للمؤسسات الثقافية المستقلة، بناء على القرارات والقوانين التى أصدرتها وزارة التضامن في ٢٠١٤، وأن هذه القرارات والقوانين تجرم الكيانات الثقافية غير الهادفة للربح وتهدد بسجن العاملين فيها وداعميها.
وتعد مؤسسة المورد الثقافي، التي تم تأسيسها في عام 2004، من أكبر المؤسسات الثقافية في مصر، وتقوم بدعم القطاع الثقافي المستقل في بلدان المنطقة العربية من خلال برامجها المتنوعة، كما تقوم بتشجيع الفنانين الشبّان على الإبداع ودعم حريتهم في التعبير، وإتاحة الفرصة لهم لعرض وترويج أعمالهم الفنية في الدول العربية المختلفة، بالإضافة إلى نشر الثقافة والفنون في المناطق الفقيرة والمهمّشة.
مصادرة المجال العام
الدولة حتى الآن لا تستطيع الدخول إلى عمق الشبكات الثورية، ولم تجد الدولة طريقة ناجعة ومستقرة للسيطرة على الحيز المدني وإخضاعه
تلك الهجمة الشرسة التي تشنها السلطات المصرية على المؤسسات الثقافية المستقلة والمجتمع المدني لها عدة أبعاد؛ فهي من ناحية تعد استكمالًا للطريق الذي بدأته الدولة لمصادرة المجال العام، بعد أن أفلت من يديها عقب ثورة 25 يناير 2011؛ هذا الطريق الذي برزت مظاهره الأكثر فجاجة عقب الإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي، في 30 يونيو 2013، ومن ناحية أخرى يعد استكمال الهجمة، في هذا التوقيت، شكلًا من أشكال الترهيب والقمع المسبق استعدادًا للذكرى الخامسة لثورة 25 يناير.
ويؤكد الكاتب والباحث في علم الاجتماع السياسي، علي الرجال، "أن الدولة تقوم بعملية إخلاء للمجال العام على الطراز العسكري، وليس الأمني فقط، فمقاهي وسط البلد إما خاوية أو مغلقة، والهجوم مستمر منذ شهر على المساحات الثقافية والفكرية المشهورة والمعروف عنها أنها نقاط تجمع أو مساحات للقاء النشطاء والباحثين والفنانين مثل مسرح روابط، دار ميريت، CIc (وهو مكان لعرض الأعمال الصور الصحفية والقصص المصورة وشهد معرضًا مهمًا عن المؤسسات العقابية)".
ويضيف الرجال أن "الدولة تشن هذا الهجوم بشكل يثير حفيظة السياسيين وتعجبهم من عدم وجود مبرر لذلك. وهو صحيح! فالقريب من الدوائر السياسية والحياة الاجتماعية للنشطاء في أكثر من محافظة والدوائر المتداخلة بينهم مثل الدوائر الثقافية والفنية يعرف أن الرأي السائد في هذه الدوائر هو عدم النزول (التظاهر) في ذكرى 25 يناير، بل وحتى بعض الفصائل الصغيرة التي تنادي بالنزول على استحياء لا تذهب بعيدًا في الترويج والدعوة، وأقصى حدود لخطابها -الذي يتحرك أساسًا في حيز ضيق- هو: فلنراقب حركة الشارع ونرى ماذا سيحدث".
ويرى الرجال أن "عملية الإخلاء هذه تعكس أن الدولة حتى الآن لا تستطيع الدخول إلى عمق الشبكات الثورية والحركة الدائرة في المجتمع- على الرغم من كل هذا الجمود والتيه الذي أصاب هذه الحركات والشبكات-، وحتى الآن ما زالت عدسات الدولة الأمنية غير قادرة على تحديد حجم المخاطر ومساحات الحركة، وبالتالي يأخذ الآمر طابعًا عسكريًا؛ فالعديد من الشوارع في أغلب مدن المحافظات المختلفة من أسوان إلى الإسكندرية مغلقة، وبعضها كان مغلق من قبل 30 يونيو 2013، أي كرد فعل على الثورة وليس فقط أحداث فض رابعة وما تبعها من مظاهرات وأحداث عنف وإرهاب، والأقسام والمؤسسات المهمة في الدولة محاطة بجدران إسمنتية وحواجز كبيرة. وحتى الآن لم تجد الدولة طريقة ناجعة ومستقرة للسيطرة على الحيز المدني وإخضاعه".
اقرأ/ي أيضًا: