"عزيزي المغترب المصري في إيطاليا، النظام الحاكم لدولتك مستعد للاهتمام بك. كل ما عليك فعله هو الاختفاء أو الوفاة، ويفضل أن يكون ذلك دهسًا أو حرقًا أو داخل إحدى السجون الإيطالية. هذا العرض سارٍ لمدة قصيرة، قبل إغلاق ملف ريجيني الإيطالي، والذي يبدو أنه سيتم في القريب العاجل. اقتنص الفرصة!".
لم يكن النظام المصري يلتفت إلى الجاليات إلا عند الحديث عن عائدات المصريين في الخارج والتي وصلت في 2016 إلى نحو 20 مليار دولار
يُمكن أن نرى هذا الإعلان بعين الخيال يستهدف 110 آلاف نسمة على الأقل، هم عدد المصريين المقيمين رسميًا في إيطاليا، علمًا بأن نسبتهم لا تتعدى 2.2% من إجمالي الجاليات الأجنبية التي تقدر بنحو خمسة ملايين مهاجر، مع العلم بأنّ أعداد المصريين في إيطاليا أكثر من ذلك بكثير، إذا ما وضعنا في الاعتبار من لا يحملون أوراق الإقامة الرسمية، أو من يدعون فور وصولهم إلى الأراضي الإيطالية أنهم سوريون أو عراقيون طمعًا في اللجوء.
لم يكن النظام المصري يلتفت إلى الجاليات إلا عند الحديث عن عائدات المصريين في الخارج، والتي وصلت في 2016 إلى نحو 20 مليار دولار، بما يعادل حوالي 4 أضعاف عائدات قناة السويس.
هذا التجاهل تغيّر بعد الضجة التي صاحبت واقعة مقتل الباحث الإيطالي "جوليو ريجيني" في يناير 2016، حيث ابتدع نظام السيسي نظرية جديدة في العلاقات الدبلوماسية، بتطوير مبدأ المعاملة بالمثل بشكل أكثر ابتذالًا ليصبح "المكايدة بالمثل". وهكذا التفت النظام أخيرًا إلى الجالية المصرية في إيطاليا، لا لشيء، إلا لاستخدامها كورقة ابتزاز سياسي. لكن هذا الالتفات لم يشمل الأحياء للأسف، بل كانت له تلك المواصفات الخاصة سالفة الذكر في الإعلان.
بعد مقتل ريجيني قَلَّبَ النظام في دفاتر الشكاوى التي تقدم بها ذوو مصريين مهاجرين في إيطاليا، قُتلوا في ظروف غامضة، أو اختفوا دون العثور عليهم، بعد أن تم تجاهلها لوقت طويل. لم يُوفَق النظام في العثور على حالة مماثلة تمامًا لحالة ريجيني المقتول تحت التعذيب، فارتضى بحالة اختفاء، وهكذا بدأت الأذرع الإعلامية بتصنيع وتعليب متتالية "ريجيني المصري"، وأغلب الظن أنها لن تنتهي إلا بعد إغلاق ملف ريجيني الإيطالي، ووقتها سيعود الأمر كما كان.
1. عادل معوض هيكل
"اسمحوا لي أن أتحدث أيضًا عن عادل معوض هيكل، وهو شاب مصري اختفى في إيطاليا منذ خمسة أشهر، ولم تنجح كل الجهود المبذولة للعثور عليه"، هكذا صرح عبد الفتاح السيسي لصحيفة إيطالية بتاريخ 16 مارس/آذار 2016، في محاولة لإثبات أن حادثة جوليو ريجيني لا تعدو كونها حالة فردية، لها مثيلاتها التي يمكن أن تقع حتى في إيطاليا لمواطنين مصريين.
ورغم عدم دقة ما ذكره السيسي، إذ إنّ عادل معوض لم يكن شابًا في الـ28 من عمره مثل جوليو ريجيني، بل في الـ51 حين اختفى منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول 2015، إلا أن الأمر اللافت هو أن السلطات المصرية تهاونت في حق معوض لستة أشهر كاملة، ولم تطالب بحقه إلا بعد واقعة جوليو ريجيني، تطبيقًا لنظريتها في السياسة الخارجية "المكايدة أو المعايرة بالمثل".
لم تكن هذه الحالة الأولى لاختفاء مواطن مصري في إيطاليا، فهناك على سبيل المثال حالات مثل مدحت فرج (29 عامًا) المختفي منذ 2008، وراندا جنيدي (19 عامًا) والمختفية منذ 2011 وآخرين غيرهما.
نحن هنا أمام أسماء سقطت في بئر النسيان بالفعل؛ مهاجرون مصريون لم يلتفت إليهم أحد من المسؤولين ليطالب بمعرفة مصيرهم، ليس لهم أي ذنب سوى أنهم اختفوا قبل مقتل جوليو ريجيني.
اقرأ/ي أيضًا: من قتل جوليو ريجيني؟.. سؤال و7 إجابات
مر عام على إشارة السيسي لمعوض، ولم تخبرنا وزارة الخارجية المصرية أو من دشنوا اسمه باعتباره أول "ريجيني مصري" عن مصيره. لا مزيد من متابعة قضية اختفائه. يبدو أن رقم هاتف أسرته قد ضاع من السيد أحمد موسى ورفاقه!
2. شريف عادل حبيب ميخائيل
بعدها بشهر أي في أبريل/نيسان 2016، تناقلت الصحف الرسمية خبر مقتل الشاب المصري شريف عادل حبيب ميخائيل، الذي عُثر على جثته محترقة بمنطقة ساوث هول في لندن. قررت حينها أذرع النظام الإعلامية تلقف الخبر لتعزف مرة ثانية على نغمة "ريجيني المصري".
يُذكر أن الشاب الثلاثيني والذي كان يعمل مهندسًا طيارًا، مواطن بريطاني من حيث المولد والجنسية وإن كان مصري الأصل. ورُغم أن السفير المصري في لندن وقتها، ناصر كامل، صرح بأن "المؤشرات الأولية تشير إلى أن الحادث جنائي وليس له أبعاد سياسية"، إلا أن هذا لم يمنع مناصري السيسي من تسييس الواقعة، عبر تدشين صفحة على فيسبوك بعنوان "كلنا شريف عادل حبيب"، بالإضافة إلى هاشتاغ "#عايزين_حق_عادل_حبيب"، مع تسريب شائعات لا دليل عليها تشير إلى تعذيب الشاب قبل حرقه.
ووصل الأمر بالبعض إلى الحديث عن تورط عناصر "إخوانية" وراء الواقعة. وفسر البعض هذا النشاط الإعلامي في وقته بأنه كان ردًا "دبلوماسيًا" من النظام على مطالبة بريطانيا القاهرة بضرورة فتح تحقيق نزيه للكشف عن المتورطين فعليًا في مقتل جوليو ريجيني، ويخاصة أنه كان باحثًا مرحلة الدكتوراه في جامعة كامبريدج البريطانية.
3. محمد باهر
بعدها بشهر أي في مايو/أيار 2016، تناقلت الصحف خبرًا جديدًا، هذه المرة من مدينة نابولي الإيطالية، حيث عثرت الشرطة الإيطالية على جثة محمد باهر صبحي إبراهيم علي، وهو شاب مصري من قرية الكوم الأخضر بمحافظة المنوفية، في الثانية والثلاثين من عمره، ملقىً على شريط القطار.
أخبرتنا الصحف المصرية أن "المعلومات الأولية أشارت إلى وجود جروح غائرة في الوجه والفك". وهو الأمر الذي تبين بعد فحص الطب الشرعي أنه يتفق مع سبب الوفاة، وهو تعرضه لدهس قطار سريع أدى إلى ارتطامه بعنف بأرضية القضبان في طريق عودته من عمله في إحدى المزارع، والتي كان يعمل بها دون عقد رسمي، حيث ظل الفقيد منذ وصوله لإيطاليا عن طريق البحر ولست سنوات كاملة، دون تصريح إقامة، ولم يُعثر مع جثته إلا على جواز سفره المصري وشهادة التجنيد.
لم يذكر أصحاب شعار "ريجيني المصري" أن هنالك الكثير من الشباب المصري يعيشون كالموتى على هامش الحياة في إيطاليا
بطبيعة الحال هنا أيضًا لم يسلط الإعلام المصري الضوء على أن السلطات الإيطالية تعاملت مع الواقعة باعتبارها تحمل شبهة جنائية، في محاولة لمعرفة إذا كان هناك من أسقط باهر من عدمه، بل جرى التركيز على زعم أحد أقارب المتوفى رفض الشرطة الإيطالية إطلاعه على جثة باهر، وكأن هناك ما تحاول الشرطة إخفاءه، رُغم أن الفحص الطبي للجثة تمّ بحضور والد باهر نفسه مع وفد من السفارة المصرية في روما.
لم يذكر أصحاب شعار "ريجيني المصري" هذه المرة أن هنالك الكثير من الشباب المصري في نفس سن باهر وظروفه يعيشون كالموتى على هامش الحياة في إيطاليا دون تصاريح إقامة وبالتالي دون حقوق ولا حتى تأمين على حياتهم.
4. عبد السلام الدنف
"هل جوليو ريجيني أفضل من أخي، هل دم جوليو ريجيني أغلى من دم أخي، هل حكومة إيطاليا كان عندها الجرأة أكثر من الحكومة المصرية؟". هذا ما قالته شقيقه عبد السلام الدنف، والذي تبدأ حكايته من أكتوبر/تشرين أول 2016، حين تواترت الأخبار عن مقتل عبد السلام، ابن قرية ميت الكرماء بمحافظة الدقلهلية، والذي هاجر من مصر قاصدًا إيطاليا منذ ما يزيد عن 15 عامًا، ليستقر بها حتى بلوغه 51 عامًا. كان يعمل بعقد دائم في إحدى كبرى شركات الشحن بمدينة بياتشينسا شمالي إيطاليا.
لم يعد خلال تلك المدة إلى مصر، واستقدم زوجته وأبناءه وأشقاءه. ولقي حتفه دهسًا تحت عجلات إحدى الشاحنات التابعة للشركة التي كان يعمل بها. الأمر المؤكد أن عبدالسلام كان ناشطًا عماليًا، وكان في ليلة الحادث يشارك زملاءه اعتصامهم، بعد أن أقدمت الشركة على فصلهم، دون أن يكون أحد المفصولين. فكيف قتل عبدالسلام الدنف؟
ثمّة روايتان، الأولى رواية شقيقه السيد، الذي كان متواجدًا لحظة مقتله، إذ صرّح قائلًا: "صاحب المصنع أمر سائق سيارة النقل بدهس العمال المحتجين، والذين كانوا يقفون أمام تلك السيارة، وعندما حاول السائق التحرك بالسيارة وتهديد العمال تنفيذًا لأمر صاحب المصنع وقف عبدالسلام أمام السيارة فسقط تحتها ومات دهسًا".
اقرأ/ي أيضًا: جوليو ريجيني.. قتلوه كما لو كان مصريًا
هذه الرواية كذبها صاحب الشركة مقدمًا مقطع فيديو سجل لحظات الدهس، وإن من زاوية جانبية لا توضح الكثير، كدليل على أنه لم يكن هناك أي تحريض على دهس العمال المحتجين، كما لم يكن هناك أية حواجز وضعها العمال لإعاقة خروج الشاحنات، وهو ما يبدو أن السلطات الإيطالية قد اقتنعت به لتطلق سراح السائق وتعتبر الواقعة "حادثة سير"، وهي الرواية الثانية.
كيف لنظام يقف بالمرصاد لأي تنظيم عمالي داخل مصر، أن يسير قدمًا على طريق المطالبة بحق مناضل عمالي لقي حتفه في الغربة؟
المفارقة في حالة عبد السلام الدنف، هي أن النظام المصري كانت لديه فرصة ذهبية للضغط على حكومة روما، بخاصة أن الحادثة كانت لها تداعيات كبيرة في أوساط النقابات العمالية والحركات اليسارية، التي رأت في وفاة عبدالسلام دليلًا على توحش الرأسمالية وتدهور أحوال العمال بشكل عام في إيطاليا، والحرب التي يعمل رجال المال على تزكيتها بين العمال البسطاء بعضهم البعض. ولكن كيف لنظام يقف بالمرصاد لأي تنظيم عمالي داخل مصر، أن يسير قُدمًا على طريق المطالبة بحق مناضل عمالي لقي حتفه في الغربة ليخلف وراءه أسرة كبيرة وخمسة أولاد؟ ما حدث أنّ الإعلام المصري اكتفى بالتلويح من جديد بورقة "ريجيني المصري"، قبل أن يُغلق الملف.
5. هاني حنفي سيد
وفيما يخص آخر "ريجيني مصري"، ففي مارس/آذار 2017، كان يقضي مدة حبسه متنقلًا بين أكثر من سجن إيطالي منذ عام 2014، بعد إدانته بالتورط في شبكات تهريب المهاجرين عبر البحر المتوسط، وكان من المفترض أن ينهي مده العقوبة العام القادم 2018. تقدم هاني حنفي سيد محمد، بطلب إلى المحكمة لترحيله إلى مصر، وقضاء باقي فترة عقوبته فيها. رُفض طلب هاني حنفي من قبل المحكمة، ولم تبذل السفارة المصرية أي جهد لمحاولة تدعيمه.
ووقعت حادثة الوفاة في سجن مدينة كالتانيسيتا بجزيرة صقلية جنوبي إيطاليا، ووفق إحدى الصحف الصادرة في المدينة المذكورة، فقد انتحر باستخدام ملاءة السرير، بعد ربطها في القضبان الحديدية لنافذة الزنزانة. صرحت سلطات السجن بأن هاني قد ترك خلفه رسالة كتبها قبل انتحاره، تتحفظ على نشر فحواها، وأغلب الظن أن السيد قنصل السفارة المصرية الذي توجه يوم 8 مارس/آذار إلى جزيرة صقلية، قد اطلع عليها مع تقرير الطب الشرعي.
هل هي أول حالة انتحار لمصري في السجون الإيطالية؟
لا، فثمّة حالة مماثلة لسجين مصري انتحر بنفس الطريقة، بحسب تصريح السلطات الإيطالية، في إحدى السجون بمدينة بادوفا شمالي إيطاليا، في أكتوبر/تشرين أول الماضي. مرّت هذه الواقعة دون أي تغطية إعلامية أو طلبات إحاطة في البرلمان لوزيرة الهجرة، كما حدث مع واقعة هاني حنفي، وهو ما يؤكد من جديد على الطبيعة الانتقائية للتركيز على حالات معينة بأوقات محددة.
جانب آخر تجدر الإشارة إليه فيما يخص توقيتات ظهور متتالية "ريجيني المصري"، هو تزامنها مع سلسلة مقالات تنشرها صحف مملوكة لمؤسسات اقتصادية كبرى، تحاول اقناع الرأي العام الإيطالي بلغة المصالح، وأهمية الدور الذي يمكن لنظام السيسي أن يساعد به إيطاليا فيما يخص الملف الليبي، مع الغمز أحيانًا إلى أن ريجيني ربما قد استُغِلّ بقصد أو بغير قصد من قبل المخابرات البريطانية.
اقرأ/ي أيضًا: في ضية ريجيني.. بريطانيا تدخل على الخط
ورغم أن أي من المحاولات السابقة للترويج لـ"ريجيني مصري" جديد لم تكتمل، لأنها أولًا على ما يبدو لا تتسم بالجدية، وثانيًا لأنها لم تثر أية شكوك بخصوص احتمالية تورط سلطات أمنية إيطالية في إحدى الحالات المذكورة، وهو الأمر الذي يُضعف مصداقية مقارنتها بحالة جوليو ريجيني الإيطالي، إلا أن هناك العديد والعديد من المفارقات الواضحة.
وهناك مفارقة أخيرة تستوجب النظر، وهي أن يدّعي نظام متورط في عدد ضخم من حالات الاختفاء القسري، أنه جاد في سعيه لأجل قضية اختفاء مواطن مصري في إيطاليا كعادل معوض، وفي هذا الصدد يُشار إلى أنه في أُغسطس/آب 2016، قالت حملة "أوقفوا الاختفاء القسري"، إنها أحصت خلال عامٍ واحد، 912 شكوى اختفاء قسري، بينها 52 حالة ما زالت مجهولة المصير.
اقرأ/ي أيضًا: