اتسم مشروع الفيلسوف الإيطالي المعاصر جورجيو أغامبين براهنية كبيرة، نظرًا لاشتغاله النظري والفلسفي والقانوني في تقييم الآثار السياسية والأخلاقية للكوارث المعاصرة، وقد اشتهر بشكل خاص باشتغاله على التاريخ الفكري والسياسي لمفهوم "الحياة"، والتهديد الذي تشكله السلطة السيادية عليه. واكتسب أغامبين أهمية إضافية تزامنًا مع الظروف التي يعيشها العالم، مثل الهجرات ومعسكرات الاعتقال، واستشراء الإرهاب وإعلان الحرب عليه، وسياسات الموت الممنهجه، التي تُرتكب باسم السلطة السيادية في أكثر من مكان.
يرى الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين أن التهديد الحقيقي ليس المرض نفسه. بل مناخ الذعر الذي أحدثته وسائل الإعلام والسلطات
تفاعل أغامبين مع فيروس جائحة كوفيد-19 كورونا في مقالين قصيرين، يستعيد فيهما منظومتيه التحليلية: "حالة الاستثناء" و"الإنسان العاري" لدراسة التأثيرات الناجمة على الاستجابة العالمية لوباء فيروس كورونا، وذهب بالقول في مقاله الأول (المبكّر إلى حدٍّ ما) أن كورونا "إنفلونزا طبيعية، ولا تختلف كثيرًا عن تلك التي تصيبنا كل عام".
اقرأ/ي أيضًا: بورديو "عن الدولة".. التفكير في العصي على التفكير
ويحدّد أغامبين حجته بالقول: أن التهديد الحقيقي ليس المرض نفسه. بل إنه "مناخ الذعر" الذي أحدثته "وسائل الإعلام والسلطات" حول المرض، والذي يسمح للحكومات بفرض القيود على الحركة والتجمع والاجتماع الطبيعي. واعتبر أن عمليات الإغلاق والحجر الصحي هي في الواقع مظهر واحد فقط من مظاهر "الميل المتزايد لاستخدام حالة الاستثناء كبراديغم عادي للحكم". ويذكرنا أن الحكومات تفضل دائمًا أن تحكم بإجراءات استثنائية، ويضيف بنبرة لا تخلو من لغة التحذير من المؤامرة أنه "بمجرد استنفاد الإرهاب كمبرّر"، فإن أفضل شيء تلجأ إليه الحكومات هو "اختراع وباء".
أطروحته عن "حالة الاستثناء"
يفسر أغامبين ردّات فعل الحكومات على الوضع الوبائي بميل هذه الحكومات المتزايد إلى تبنّي "حالة الاستثناء" أنموذجًا اعتياديًا في الحكم. وهي أطروحة عامة سبق أن طوّرها عقيب أحداث 11 أيلول/سبتمبر في كتابه "حالة الاستثناء".
طرح في مشروعه لدراسة حالة الاستثناء سؤالًا جوهريًا حول من يملك السيادة في الدولة الحديثة؛ هل هو الشعب الممثل بالمجلس التشريعي أم الدولة في سلطتها التنفيذية والتي تملك تعليق القانون والدستور بحالات الاستثناء؟ ولتعميق هذا النقاش، يعود أغامبين ما أسسه الكاتب وفقيه القانون الدولي وأبرز منظريه كارل شميت، حول نظرية السيادة وحالة التلازم الجوهري بين حالة "الاستثناء" و"السيادة"، من خلال وضع تعليق الدستور بيد السيادة.
وتدل حالة الاستثناء عند كارل شميت، على تعليق القانون الذي قد تقوم به السلطة الحاكمة بحجة المحافظة على السيادة. ويتعارض مثل هذا التعليق بطبيعة الحال مع فكرة دولة القانون، باعتبار أن الدولة نتيجة تعاقد بمقتضاه تكون الحكومة ملزمة باتباع القوانين التي تم تشريعها بشكل مستقل، أي باعتماد مبدأ فصل السلطات. فكيف يمكن لهذا الحكومات أن يقوم بتعليق القانون وتجاوز المؤسسات الشرعية. وهو تاريخيًا ما قام به أغلب المستبدون والدكتاتوريون الذين ما أن يصلوا إلى الحكم حتى يصدروا "مراسيم قانونية" تحدّ من الحريات الشخصية، والمثال الواضح في هذا السياق هو هتلر ذاته، حيث يعتبر أغامبين أن: "دولة الرايخ الثالث {ألمانيا النازية} برمتها دولة خاضعة لحالة استثناء، امتدت لاثني عشر عامًا. وبالتالي، فإن الجرائم التي ارتكبها النظام النازي ضد الإنسانية كانت جرائم ارتكبها نظام استبدادي يحكم دولة ديمقراطية اسمية.
يفسر أغامبين ردّات فعل الحكومات على الوضع الوبائي بميل هذه الحكومات المتزايد إلى تبنّي "حالة الاستثناء" أنموذجًا اعتياديًا في الحكم
قام أغامبين بتوسيع تحليل شميت لحالة الاستثناء ليشمل الولايات المتحدة، التي اعتبرها دخلت حالة استثنائية عالمية بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر من خلال "الحرب على الإرهاب". حبس المواطنين الأجانب في "معسكرات الاعتقال"، ومعظمها في خليج غوانتانامو وأبو غريب في العراق، وهو ما شبهه ضمنيًا بمعسكرات الاعتقال.
كورونا و"الذعر المفتعل"
في سياق كورونا، نشر أغامبين مقالًا في منتصف شباط/فبراير الماضي، وأعلن أن التدابير الطارئة، التي اتخذتها الحكومة الإيطالية لمواجهة وباء فيروس كورونا "جامحة وغير معقولة وغير مبررة على الإطلاق". كان هذا المقال مبكرًا بالنسبة لتطورات الوباء، ولذلك فهو يورد بعض الإحصاءات القديمة حول الحالات التي أصابها المرض، ويتوصل أن 80% إلى 90% تحمل أعراض خفيفة أو معتدلة، ويطرح تساؤلًا: إذا كان هذا هو الوضع الحقيقي، فلماذا تبذل وسائل الإعلام والسلطات قصارى جهدها من أجل خلق مناخ من الرعب، وبالتالي إثارة حالة استثنائية فعلية، مع قيود مشددة على الحركة وتعليق الحياة اليومية وأنشطة العمل في مناطق بأكملها؟
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "نهاية الشجاعة".. رهان التفكير على شجاعة ديمقراطية
إلا أن الأمر المقلق في نظره، يعود إلى أن حالة الخوف التي وقع التركيز عليها في الأعوام الأخيرة في أوروبا أصبحت مسيطرة على أذهان الأفراد، بحيث لا يمضي الحدث حتى ولو كان تافهًا من دون أن يقع إبرازه وتضخيمه ليولد ميل هذه الحكومات المتزايد إلى ذعر جماعي. "ما من شيء يَفضُل الوباء اليوم في إثارة الذعر الجماعي".
صحيح أن التكاليف التي يفرضها الوباء تتطلب تضحيات كبيرة، سواء على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول، وتطرح تحديًا أمام مستقبل الديمقراطية الليبرالية، في ظل الإعجاب الذي ينظر إلى الدول الشمولية مثل الصين في سيطرتها (أو تعتيميها) على الوباء. خاصة لدى الحكومات "الشعبوية" المنتخبة ديمقراطيًا في البرازيل والمجر والهند وروسيا وتركيا والولايات المتحدة، إلا أن التكاليف المباشرة المتمثلة بالحد من حريات التجمع والحركة تعتبر التضحية الأسهل في هذه الحالة. ولا يمكن أن تكون الدول افتعلت هذا الوباء، بغية الاستمرار في الحكم بحالة استثنائية، بعد استنفذت ذريعة الإرهاب، ويمكننا أن نتساءل مع سلافوي جيجيك: هل من مصلحة السلطات وأصحاب رؤوس الأموال إثارة أزمة اقتصادية عالمية بهذا الحجم لدعم سلطتهم؟
ردودً على أغامبين
استدعى تعليق أغامبين الأول ردودًا وتعقيبات من قبل العديد من الفلاسفة، منهم الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي، الذي يعرّف أغامبين على أنه "صديق قديم"، ويورد في نقد مبطّن ملاحظته التالية: "قبل ثلاثين عامًا تقريبًا قرّر الأطباء أنني بحاجة إلى عملية زراعة قلب. كان جورجيو واحدًا من القلائل الذين نصحوني بعدم الاستماع إلى الأطباء. لو كنت اتبعت نصيحته، لأصبحتُ ميتًا منذ وقتٍ طويل على الأرجح". يكشف هذا التعقيب لنانسي عن ميلٍ حاد عند أغامبين للحذر والتشكيك من السلطات والمؤسسات الرسمية، وهو ما ينسحب من موقفه من وباء كورونا.
بعد الردود التي أحدثها مقاله الأول، يمضي أغامبين مقالته الثانية والتي حملت عنوان" توضيحات"، في استدعاء مفهوم "الحياة العارية" ويعلن أن المجتمع الإيطالي لم يعد يؤمن إلا بالحياة العارية، حيث بات من الجلي أنهم في سبيل تفادي التقاط العدوى مستعدون عمليًا للتضحية بكل شيء: ظروف الحياة الطبيعية، والعلاقات الاجتماعية والعمل، وحتى الصداقات والعواطف والقناعات الدينية والسياسية.
مشكلة خطاب أغامبين أنه يدين الإجراءات التي تعمد إليها الدولة والأجهزة الصحية ويصفها بأنها ممسوسة برهاب الأجنبي، وهذا الموقف الذي يصدر منه لا ينتبه إلى المفارقة: عدم المصافحة باليد والانعزال عند الحاجة في البيت يؤشران على الصورة التي بات يكتسيها التضامن اليوم. من يستطيع أن يسمح لنفسه اليوم بالمصافحة باليد والحضن؟ بل وكما يذهب سلافوي جيجك، "الآن فقط، عندما أصبحت ملزمًا بتجنب المقربين جدًا مني، أحس إحساسًا قويًا بحضورهم في حياتي، وأهميتهم بالنسبة إلي".
من بين "النكات" التي اشتهرت مع انتشار وباء كورونا، واحدة تقول: "مثل هذه الأوضاع يظهر أصحاب شهادة مادة الإنسانيات لا جدواهم، هل سيتحاججون بها مع الفيروس؟"
يفسر جيجيك القراءة التي يعرضها أغامبين الصيغة الأكثر تطرفًا لموقف يساري واسع الانتشار يفسر الذعر المبالغ فيه الناجم عن انتشار الفيروس بمزيج من ممارسة السلطة لإحكام السيطرة على المجتمع ومن عناصر أخرى ذات صلة بالعنصرية الصريحة التي تتوزع بين لوم الطبيعة مرة ولوم الصين أخرى. اعتراض جيجيك على هذا الموقف العام، ببعديه السلطوي والعنصري، مرده أنه موقف لا يلغي الواقع. هل يفرض علينا هذا الواقع بالفعل تقييد حريتنا؟ مما لا شك فيه أن الحجر الصحي والإجراءات الأخرى المماثلة تحد من حريتنا، وهنا نكون في حاجة ماسة بنظره إلى أشخاص من أمثال جوليان أسانج للكشف عن سوء استخدام هذه الإجراءات المحتمل. لكن يجب في نظر جيجيك ألا ننسى أن الوباء أعطى الأشكال الجديدة من التضامن المحلي والعالمي زخمًا غير مسبوق، فضلًا عن أنه بيّن بالملموس الحاجة إلى السيطرة على السلطة نفسها وتقييدها مستقبلًا.
اقرأ/ي أيضًا: "بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء" لفرانز فانون: عن كتاب لا يزال مظلومًا
من بين "النكات" التي اشتهرت مع انتشار وباء كورونا، واحدة تقول: "مثل هذه الأوضاع يظهر أصحاب شهادة مادة الإنسانيات لا جدواهم، هل سيتحاججون بها مع الفيروس؟". وها هو تعليق واحد من أهم الفلاسفة المعاصرين، يظهر "لا جدواه" في حدثٍ تعيشه البشرية كلها، ويتورط في فخّ نظرية المؤامرة، في سبيل وفائه لجهازه المفاهيمي المحدّد سلفًا.
اقرأ/ي أيضًا:
"الموت الأسود" في أعمال كتاب ومؤرخي الشرق
الإنفلونزا الإسبانية.. حكاية "الوباء الشاحب" الذي عالجه العالم بالنسيان