يكاد المقهى في الفضاء الجزائري، من حيث حميميته، يكون ملحقًا بالبيت. يلتقي فيه الكبار والصّغار، قد يتحدثون وقد يلعبون الورق، وقد يخوضون في الشأن العام، فيطلقون مبادراتٍ تعني الأفراد أو المجتمع. من هنا، كان المقهى حاضرًا على مدار القرن العشرين، في تشكيل الوعي الفني والوطني للجزائريين، خاصّة في المدن الكبرى، مثل الجزائر العاصمة وقسنطينة وسطيف ووهران وتلمسان.
منه خرجت الفرق الرياضية الكبيرة والجمعيات الدينية والثقافية والأصوات الفنية التي كانت نواة الحركة الوطنية التي مهدت لثورة التحرير، في خمسينيات القرن العشرين، وهو الدور الذي بقي يلعبه في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني، 1962، قبل أن يتحوّل إلى فضاء بارد، لا يحسن إلا تقديم الفناجين، والفرصة لمشاهدة مقابلات كرة القدم، ممّا جعله في صدارة الفضاءات التجارية التي ترمز إلى الرّوح الاستهلاكية الجوفاء.
مبادرات شابة تطلق في المقاهي الجزائرية لدعم القراءة وتداول الكتاب
في ظلّ هذا الواقع، انتفضت بعض المقاهي، في بعض المدن الجزائرية، على هذه الروح، وأطلقت مبادراتٍ ثقافيةً تهدف إلى ربط الصّلة بينها، وبين المقاهي في العقود الأولى من القرن العشرين، حيث كان مقهى واحد، مثل "النجمة" في قسنطينة، و"مالاكوف" في الجزائر العاصمة، يصنع من الوعي الفني والثقافي، من خلال التفاف النخب المختلفة حوله، ما عجزت عن فعله عشرات المؤسسات الثقافية والفنية الحكومية، رغم أنها تحظى بأغلفة مالية ضخمة. وأولى هذه المبادرات التي لفتت انتباه الناس والإعلام إليها، فباتت نموذجًا يُحتذى به، كانت في مدينة عين الصفراء، 650 كيلومترًا غربًا، حيث التقت رغبة أعضاء "جمعية صافية كتّو" مع رغبة كمال بوعزيز صاحب مقهى في المدينة، في توفير فضاء يجمع بين متعة التجارة ومتعة القراءة، فكان أن تحوّل المقهى إلى مكتبة مفتوحة، يُقدّم فيها الكتاب وفنجان القهوة أو كوب الشّاي بالموازاة، شعارهم في ذلك "اشرب وحلّق"، ليخلف شعار "اشرب واهرب" الدالّ على الروح الاستهلاكية التي باتت تنخر الواقع الجزائري.
اقرأ/ي أيضًا: سائق "مترو" الجزائر ..امرأة
ينقل الشاعر شيخ ضيف الله مناخات المقهى لـ"ألترا صوت" بالقول: "وضع مثقفو المدينة بعض كتبهم في رفوف المقهى، وبعد فترة قصيرة، دخلت عناوين أخرى، بعضها وصلت تبرّعًا من الخارج، وبعضها تبرّع بها رواد المقهى العاديون. بما فيهم أولئك الذين نظروا إلى المبادرة بروح سلبية في البداية". يشرح: "نجاح المسعى دليل على أن الواقع الجزائري يحتاج إلى نخبة مبادرة، ليتبعها الآخرون ويتفاعلوا معها". ويقول ضيف الله: "لقد قلّت الثرثرة في المقهى، بانشغال كثير من روّاده بالقراءة، وتحسّنت صورته بين السكّان، إذ أصبح مرتبطًا لديهم بحسن السلوك، وهو المعطى الذي جعل الأولياء يسمحون لأولادهم بالبقاء خارجًا إلى وقت متأخر من الليل، كما أن كثيرًا من الشباب الذين لم يطالعوا كتابًا واحدًا في حياتهم، باتوا مداومين على القراءة، في مجالات مختلفة".
نجاح نخبة مدينة عين الصفراء في فرض واقع ثقافي جديد، في مدينتهم التي كان أمسها الثقافي أفضلَ من يومها، أغرى نخبة مدينة تقرت، 620 كيلومترًا جنوبًا، منها الشاعر محمد الأخضر سعداوي، إلى إطلاق المبادرة نفسها، فكان النجاح مضاعفًا، من حيث عدد المقاهي التي رحبت بالفكرة، ومن حيث عدد المتفاعلين معها من الزبائن.
تتحول أدوار المقاهي في الجزائر من مكان للتسلية وشرب القهوة والاستهلاك الى مكان لتداول الأفكار والمعرفة
يقول الروائي عبد المنعم بالسايح: "لقد أنفق الكتّاب والفنانون أوقاتهم وأعصابهم في انتقاد الأداء المحدود لمديريات الثقافة الحكومية، عوض التحلّي بروح المبادرة"، ويضيف: "كانت مدينتنا نائمة ثقافيًا، فصارت بفعل هذا المسعى نابضة وفاعلة". وفي الأيام القليلة الماضية، التحقت مدينة الأغواط، 400 كيلومتر جنوبًا، بالمدن التي بعثت نخبتها المثقفة الروحَ في مقاهيها، فكانت البداية مع مقهى "الرحالة" قبالة دار الثقافة التابعة لوزارة الثقافة، فكأنها أرادت القول، حسب الممثل طاهر صفي الدين، صاحب الفكرة: "لكم طريقتكم في النشاط الثقافي، من خلال برامج تحتضنها الإدارة، فتطلع ميتة ومنفرة للناس، ولنا طريقتنا الخاصّة في ذلك، من خلال برامج يحتضنها الشعب في مقاهيه وساحاته العامّة، فتطلع حية وقائمة على التفاعل".
وكان المسرحي هارون الكيلاني، الضيف الأوّل للمقهى، إذ قرأ نصه الجديد "مسامير الدهشة"، في جلسة امتدّت ثلاث ساعات، وحظيت بـ36 ألف مشاهدة على "اليوتيوب". يقول الكيلاني لـ"ألترا صوت": "كثيرون ممّن كانوا يقاطعون النشاطات الثقافية الرسمية حضروا اللقاء، كما أن كثيرين من فناني المدينة، طلبوا من القائمين على المبادرة برمجتهم". يضيف: "حان الوقت، لأن تعود النخبة المثقفة إلى حضن المجتمع المدني، وتكفّ عن كسلها وانتظارها للمبادرات الحكومية التي أثبتت أنها لا تزيد على أن تنهش المال العام، من غير أن تترك أثرًا يذكر".
اقرأ/ي أيضًا: