في كتابه "ضدّ المكتبة"، يُشدِّد خليل صويلح على ضرورة قيام المثقفين بالتخلّص من فكرة المكتبة الاستعراضية، أي تلك التي تُجمَع فيها الكتب لغايات الاستعراض فقط، وتبقى دون قراءة.
يبتكر صويلح فكرة "اللامكتبة" ويُطالِب من خلالها، أولًا، بـ"إلغاء الشكل الفلكلوري للمكتبة، كمظهر استعلائي، لا يختلف عن فاترينة الكريستال". وثانيًا، بـ"ضرورة إطاحة عناوين تسللت عنوة إلى الواجهة بقوة دفع أيديولوجية طورًا، وسطوة أسماء مرموقة تارة، أكثر منها حاجة روحية أو معرفية".
هل تشعر المكتبات بهدم أركانها؟ هل يوجعها بتر أيديها ورفوفها؟
لاحت لي فكرة "اللامكتبة" كما ابتكرها صويلح وأنا أقرأ رسالة كتبها أحد المثقفين والباحثين في غزة، ليعبّر فيها عن افتقاده واشتياقه إلى مكتبته التي كانت في منزله، وهدمها صاروخ إسرائيلي استهدف المنزل. ففي تلك الرسالة، يكتب حمزة أبو توهة عن مشاعره تجاه مكتبته المدمرة قائلًا: "ما زال شبح مكتبتي المفقودة يطاردني، عشرات الآلاف من الكتب التي كلّفتني عشرات الآلاف من دولارات لا تعني لي شيئًا مقابل ما تُمِدُّني به هذه الكتب من العلم، جمعٌ غفير من العلماء كنت أسهر معهم أجمل الأوقات، كل كتاب في هذه المكتبة أخذ مني نصيبًا عظيمًا من حواسي الخمس، أنظر إليها فآتيها فرحًا بأني أملك أسرارها، أسمعها فأمتلئ علمًا، ألمس ورقها وأغلفتها فأنتشي بسحرها، أشمّ عطر أوراقها الخاص فيهرب بي من هذه الدنيا المتعبة، أتذوق ما كَتب مؤلفوها فيها فلا أجد أشهى منه، أكتب هذه الكلمات وهمع الدمع يغرقني، هل تُرجِع لي الأيام عهدًا جميلًا شبيهًا مما كان؟ هل تَرجع لي مكتبتي؟ هل يَرجع لي فردوسي المفقود؟".
كنتُ أقرأ كلمات أبو توهة وأفكّر بأنها تصلح كمثال صريح على أنّ المكتبة لأصحابها من المثقفين الحقيقيين – بعيدًا عن أدعياء الثقافة – هي أكثر من شكل فلكلوري أو مظهر استعلائي أو فاترينة كريستال، وهي أكبر من بضعة عناوين معروفة ومشهورة تُنظَّم على الرفوف لغايات الاستعراض لا القراءة والمعرفة الحقة.
إنّ المكتبة لأصحابها الحقيقيين هي ملاذ وفردوس أرضي، يلجؤون إليه في كلّ مرة يشعرون فيها بالفراغ المعرفي، ويرغبون فيها بالاستزادة وملء رصيدهم المعرفي عبر طرق البحث والغوص والقراءة والتأمّل.
كما أنها، لأصحابها الحقيقيين، أكثر من مجرّد واجهة للزينة، أو مكان للعرض والاستعراض. إنّ رفوفها هي أشبه بواحة تُقصَد لأغراض الارتواء، أما الكتب التي فيها فهي أشبه بذاكرة للأماكن، فكلّ كتابٍ قدمَ من مكانٍ ما له ذاكرة، تذكّر صاحب الكتاب بالمكان، وتجبره على تذكّر حكايته.
إنّها لأصحابها الحقيقيين سلسلة من الشعوريات المتناقضة المصاحبة لقراءة كتبها؛ صخب أو هدوء، سعادة أو حزن، لذة أو استياء، شعور بالامتلاء أو الفراغ المضاعف. وهي كذلك فكرة تُذكّرهم دائمًا بأنّ الكتب هي "اختراعٌ بشريٌّ رائع"، وأنّهم لولاها لما تمكنوا من العثور على فراديسهم الأرضية.
أتساءل هنا وأنا أشاهد حزن أصحاب المكتبات في غزة على مكتباتهم المقصوفة والمهدمة والمدمرة: كيفَ تجرؤ قنبلة غبية على هدم فردوسًا أرضيًا؟
وأتساءل مجددًا وأنا أشاهد كتب المكتبات المهدمة ملقاة بين أنقاض البيوت: هل تشعر المكتبات بهدم أركانها؟ هل يوجعها بتر أيديها ورفوفها؟ هل يُؤلمها مشاهدة أطفالها الكتب يبتعدون عن قلبها ويتناثرون هنا وهناك؟ والأهمّ من ذلك: كيف تُعبِّر المكتبات المدمَرة عن اشتياقها لأصحابها؟ بالصراخ أم البكاء أم الأنين؟