ألترا صوت – فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
آدم فتحي شاعر ومترجم من تونس. من أعمال الشعرية: "أناشيد لزهرة الغبار"، و"المعلّقة"، و"نافخ الزجاج الأعمى.. أيامه وأعماله". نقل العديد من أعمال إميل سيوران إلى العربية مثل: "المياه كلها بلون الغرق" و"مثالب الولادة". كتب العديد من الأغاني للشيخ إمام ولطفي بوشناق.
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
دخلتُ عالَم الكُتُب من ثلاثة أبواب: الباب الأوّل جدّتي "فطيمة" بِعَيْنِها الوحيدة المحفوفة بالأسرار وخُمْسَتِها اللامعة ورائحة العنبر المنبعثة من ملابسها وضحكاتِها. الباب الثاني وَالِدي "عليّ" الأديب الصامت الذي ضلّ طريقه من أمّ الصمعة في نفزاوة إلى مقاعد التدريس في قرية الشريفات. أمّا الباب الثالث فهو عَالَمُ "الكوميكس" والمجلاّت الفرنسيّة "المُصوّرة" التي كنت أقتطع ثَمَنَها من مصروفي الأسبوعيّ وأنا "بَيّات" في معهد قرمبالية.
كانت جدّتي تعشق سرْدَ الحكايات وتستمتع بإعادة "تأليف" كلّ حكاية تسردها، ولعلّي أخذتُ عنها شيئًا من تلك المتعة في علاقتي بالقراءة. أتذكّرُ بدقّةٍ حتّي اليوم طريقتَها في توقيع الحَكْي بتلوين النبر وتوظيف الصمت. أتذكّر موسيقى شناشينها وهي تنكُشُ شَعْرِي بأصابعها النحيلة الشبيهة بسعف النخيل. كنتُ أتعمّدُ مُقاطَعَتَها بأسئلتي الطفوليّة الماكرة في منعطف هذه الحكاية أو تلك، فإذا هي تهمس في أذني بتلك العبارة التي ما انفكّ صداها يطربني: "اقرأ على روحك وليدي. الكتب توصّلك لِلِّي تحبّ".
كان والدي يستعيد هذه العبارة بإعجاب. وأذكر إلى اليوم كم ظلّ يؤكّد لي أنّ "حكايات جدّتي" جديرة بأنّ تُدرج في "مناهج التعليم"، وأنّ الثقافة الشعبيّة هي التي صنعت توفيق الحكيم وطه حسين والعقّاد، وهم أعلام الأدب في نظره. كنتُ أكتشف تلك الأسماء بالكثير من التهيُّب والفضول بينما هو يحثّني على مطالعة كتُبٍهم على الرغم من أنّه يراها "أكبر من عمري"، طالبًا منّي أن أقرأها "دون أن أنسى نفسي". كان يطلق على تلك الطريقة اسمَ "القراءة اليقِظَة" ويعني ضرورةَ أن أنتبه إلى ما يُشكِل عليَّ من عبارات وأفكار، فأسجّله في كرّاسة من تلك التي كنّا نطلق عليها اسم "نومرو 24"، حتى إذا فرغَ هو من العمل أقبلَ يشرح لي ما أشكلَ ويُذَلّلُ ما استعصَى وقد لمعت عيناه باعتزاز لا يُوصف.
تلك "القراءة اليَقِظة" تحوّلت عندي فيما بعد إلى مَا أطلقتُ عليه اسم "القراءة المتحرِّرة". قراءة تتيح لي، على النقيض ممّا نصحني به، أن أنسى نفسي في الكتب كي أجِدَنِي وقد أصبحتُ "شيئًا" آخر. أن أستمتع بالقراءة "متحرّرًا" من كلّ هدف مُسبَق أو توظيف. أن أسافر في الكُتُب مثل من يرتمي في بحر أو مثل من يحلّق في سماءٍ نُجومُها الكلمات، منغمسًا فيها، منتبهًا إليها في الوقت نفسه. قراءة تعرف كيف تجمع بين اليقظة والحُلم، العقل والسحر، البرهان والحدس، الاندماج في النصّ حدَّ "الحُلول الصوفيّ" والاغتراب عنه حدّ القدرة على اكتشافه من جديد عند كلّ قراءة.
أمّا "الكوميكس" والمجلاّت المُصوّرة فكانت حديقتي الخلفية كي لا أقول السريّة. وظلّت مصدر متعتي حتى وأنا على عتبة الشباب، حين انتقلنا إلى العاصمة فإذا تلك "الكنوز" مُتاحة للجميع في أكشاك باب البحر. وليس أسرع منّي اليوم إلى اقتنائها من جديد، في عمري هذا، كلّما صادفتني معروضةً على رصيف "نهج الدبّاغين"، كأنّي أستعيدُ بعضًا من طفولتي وشبابي "الضائِعَيْن". بينما لم أكن أستطيع اقتناءها في أيّام الطفولة إلاّ من باعة الكتب القديمة، متلفِّتًا مثل من يرتكب محظورًا، لأطالعها خفية عن الجميع في بعض "الحِصص الثقيلة"، أو في "الدورتوار" حيث كنتُ أنتظر إطفاء الأنوار لأتكوَّرَ تحت بطانيّتي مُشعِلًا فانوسي اليدويّ الصغير، مختليًا بصُوَر بطلاتها الفاتنات مُحلِّقًا بأجنحة الخيال مع أبطالها الخارقين، "زمبلا"، "بلاك لو روك"، "السهم الفضيّ" وغيرهم كثير.
قادني البابُ الأوّل إلى الأدب الشعبيّ وأنشأني مبكّرًا على احترام ما يُسَمَّى اليوم بالـ"Pop culture" وفنون الشارع. وأتاح لي الباب الثاني مُعلّمًا استثنائيًّا عرف كيف يصوغ للكتّاب في مخيال الطفل الذي كنتُ صورةَ الأبطال الأسطوريّين، لولا أنّهم من لحم ودم، فإذا أنا أتابع أعمالهم وسِيَرهم وأطمح إلى أن أكون واحدًا منهم أيّامَ كان البعض من أندادي يحلم بأن يُصبح "بيليه" أو "كلاي". بينما مكّنني الباب الثالث من تَحَدِّي الطابوهات والتلذّذ بطعم الممنوع، والتعوّد على الفرنسيّة بطريقة شيّقة سهلة المنال، مُشْرِعًا عقلي ووجداني على كلّ تجلّيات "الآخر" لغةً ومخيالًا وتاريخًا وجغرافيا.
اليوم وقد طويتُ العقد الخامس من عمري، في وسعي الإقرار بأنّي مَدِينٌ لتلك الأبواب الثلاثة بذائقتي الأدبيّة وبالعناصر الأساسيّة التي شكّلت علاقتي بالثقافة ككلّ. بفضلها فهمتُ ألاّ تناقُض بين الثقافة الشعبيّة والثقافة العالِمة، ألّا خُصومة بين الجُذور والأجنحة، ألّا تَعارُضَ بين المتعة والمعنى. فإذا أنا أستمتع بكلّ أنواع الإبداع لكلّ الأجيال ومن جميع أنحاء العالم. لا أشيح عن دراسة علميّة بحُجّةِ إعلاء الفكر. لا أفاضل بين الأجناس الأدبيّة بتعلّة أنّ هذا أرقى من ذاك. لا أنحاز إلى السرد بدعوى أنّه "ديوان العرب الجديد". لا أحاكم الشعر على أساس انتمائه إلى قصيدة النثر أو القصيدة الموزونة. لا يعنيني أن يكون صاحب العمل شيخًا أو شابًّا وأن يكتب بالفصحى أو العاميّة. لا يهمّني أن تكون الروايةُ كلاسيكيّةً أو تجريبيّة، بوليسيّةً أو تاريخيّة، واقعيًّة أو من روايات الخيال العلميّ، فالمهمّ بالنسبة إليّ ما يمنحني العملُ من متعةٍ ومعنًى، وما يثير فيّ من أسئلة وأخيلة، وما يحفّز لديّ من مسافةٍ نقديّة، وما يمدّني به من جرأةٍ على الإعجاب والاندهاش، وما يُتيح لِي من قدرةٍ على "التفكير بنفسي".
ذاك ما أعنيه بـ"القراءة المتحرّرة" وكان في وسعي أن أقول "المُحَرِّرة": إنّها حوارٌ خلاّق مع العالم، مع الذات والآخر. منصّةٌ للوعي النقديّ. محفّزٌ على الإبداع. فضاءٌ لمقاومة الاتّباع. درْبةٌ على الحريّة والمسؤوليّة. مدرسةٌ لتعلُّم المشاركة والتقاسُم... ملامح لا تختلف عن مقوّمات "المواطنة" بما تعنيه من توق إلى الارتقاء من مستوى العيش معًا إلى مستوى الفعل معًا... من ثمّ اقتناعي مبكّرًا بأنّ تنشئة أطفالنا على حبّ القراءة مسألة حياة أو موت. الطفلُ، مواطنُ المستقبل، الذي ينشأ على مثل هذا الحبّ لا يشفى منه أبدًا. ثَمَّ تكمنُ "مناعتُه" الحقيقيّة من أعداء الإنسان وأعداء الحياة.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
أعتقد أنّ لكلّ كتابٍ نقرأه تأثيره الكبير في حياتنا سواء انتبهنا إلى ذلك أم غفلنا عنه. بل لعلّنا لا ننتبه أحيانًا إلى تأثير بعض الكتب إلاّ بعد قراءتها بسنوات. أذكر في هذا السياق رواية "برق الليل" للبشير خريّف. اكتشفتُ هذه الرواية لأوّل مرّة وأنا في التاسعة أو العاشرة من عمري بفضل الإذاعة التونسيّة، بعد أن حوّلها الراحل محمد حفظي في أواخر ستّينيات القرن العشرين إلى سلسلة تمثيليّة فاتنة. كان لدينا راديو من ذلك النوع الشبيه بالصندوق ذي العين "الكهربائيّة" التي تتوهّج ما إن "تسخن"، واعتادت الأسرة أن تتحلّق حوله كلّ ليلة لتعود إلى أيّام اقتحام خير الدين بربروس تونس العاصمة، وتتابع مغامرات برق الليل، العبد المرح الذكيّ التوّاق إلى الحريّة. مرّت اليومَ عقودٌ على تلك "التمثيليّة" لكنّي أشعرُ بأنّي استمعتُ إليها البارحة. يكفي أن أصيخ السمع كي أستعيد "نقرات" برق الليل على القوارير في مخبر سيّده "النخلي" وأرى "ريم" تطلّ عليه من السطح، بينما عينُ الراديو الكهربائيّة ترتعش، كدتُ أقول ترقص، على إيقاع تلك المعزوفة، وتسحبني في اتّجاهها سحْبًا، إلى أن تبتلعني، فإذا أنا أغطس فيها مخترقًا المكان والزمان، محلّقًا بأجنحة الخيال في سماوات أخرى عجيبة. ما إن بثّت الإذاعة الحلقة الأخيرة من تلك التمثيليّة حتّى عملتُ المستحيل كي أحصل على الكتاب الذي اقتُبِست منه. وأذكر أنّي قرأته بعين الطفل في ذلك الوقت، مستمتعًا به في مستوى ما كنتُ قادرًا عليه. وقرأته مرّات بعد ذلك وأنا شابّ ثمّ وأنا كهل. ولم أدرك إلّا بعد سنوات، أنّ تلك اللحظات السحريّة التي عشتها مع تلك الرواية مسموعةً ومقروءة، هي التي علّمتني مبكّرًا أنّ الكتابة الإبداعيّة "showing" قبْلَ أن تكون "Telling" ، أي "إحلامٌ" لا "إعلام".
- من هو كاتبك المُفضّل ولماذا أصبح كذلك؟
لا أستسيغ المُفاضلة بين الكتّاب فلكلٍّ منهم عالَمُه وخصوصيّتُه ونكهتُه و"سِرُّه". كيف أفاضل بين من يرى مثل برتراند راسل أنّ الكِتاب "وصفَةٌ للتعساء كي يُصبحوا سعداء!" ومن يؤكّد مثل كافكا أنّ الكُتُب التي نحتاج إليها هي تلك التي "تقصم الظهر"؟ لماذا أفاضل بين الكُتّاب وأنا أجد ضالّتي في هذا وذاك؟ كُتّابي كلّهم "أفضَلُون" و"مُفَضَّلُون". وإذا كان لا بدّ من إجابة أكثر دِقّة فلأقُل إن شاعري أو كاتبي المُفَضّل هو ذاك الذي يبحث وليس ذاك الذي يجد. ذاك الذي لا يدّعي الحكمة ولا يسعى إلى تعليمي ولا يمارس الإبهار كي يبيعني شيئًا أو كي يقنعني بشيء، بل يلاعبني بجدّ. يخلخل جسدي وروحي. يفاجئني ويحيّرني. يدوّخني ويوقظني. يمتعني ويوجعني. يحلّق بي أرضًا ويغوص بي في الجوّ. ذاك هو شاعري أو كاتبي المفضّل. إنّه بعبارة أخرى الشاعر أو الكاتب الذي يفتح شروخه على شروخي، ولا يُحجم عن الإقرار بهشاشته البتّارة وقوّته الهشّة. في أعماله تتكلّم الفكرة والأحاسيس عن طريق الصورة والإيقاع. ولَدَيْهِ يتحالفُ العقلُ والجنون، الموسيقى والمعنى، البلاغةُ والعاطفة.
- هل تكتب ملاحظات أو ملخّصات لما تقرأه عادة؟
القراءة كتابةٌ في ذاتها. من ثمّ أنا لا أدوّن ملاحظات أو ملخّصات "مستقلّة" بل أترك ذلك إلى حين كتابةِ مقالةٍ مثلًا، تدقيقًا لاقتباس أو تثبُّتًا من رأي. لكنّي في المقابل أكتب على هامش كلّ كتابٍ يشدّني، مُسوّدًا البياضَ المحيط بمَتْنِ النصّ، مُحاوِرًا الكاتب أو "مُهوِّمًا" بعيدًا عن الكتاب وبإلهامٍ منه في الوقت نفسه. قد يبدو الأمر ضَرْبًا من "الوسم" أو طريقةً من طرق "امتلاك" الكتاب، لولا أنّي مع التفريط ضدّ الامتلاك، وأرى في تلك "الخربشات" نوعًا من ترجمة القراءة إلى كتابةٍ مُحاوِرَةٍ أو عاشقة. هكذا يسهلُ على زائرِ مكتبتي أن يعرف رأيي في كتابٍ مَا: إذا وجدَ "النسخة" سليمةً معافاة علِمَ أنّ الكتاب لم يحرّك فيّ ساكنًا، وإذا وجدَ النسخة شبيهةً بالمُسَوَّدَة أدْرَكَ أنّ الكتاب شدّني. البياضُ المُحيط بالفقرات هو في نظري دعوةٌ دائمة إلى التعليق والتهميش أو إغراءٌ بتأليف كتابٍ موازٍ أو فضاءٌ لمراودَةِ الكتاب عن نفسه ومُطارَحتِه الغرام، وهذا هو الأرجح. لابدّ من الإقرار بأهميّة البُعْدِ الإيروتيكيّ في التعامل مع اللغة كتابةً وقراءةً، وإلّا ظلّت مجرّد ميكانيكا. بناءً على ذلك قد تكون "خربشاتي" على هامش الكُتب التي أحبُّ، طريقتي في "البوح" لها بحُبّي.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكترونيّ؟
ظننتُ ذلك في البداية حين كان الأمر جديدًا علَيَّ ومرتبطًا بتقنياتٍ خشيتُ ألاّ أتقن التعامُل معها. خُيّل إليّ أنّي سأفقد تلك العلاقة الروحيّة و"الجسديّة" مع "الوَرَق". خشيتُ أن أفتقد الملمس والرائحة ثمّ أدركتُ أنّي كنت مخطئًا في ظنّي. الكتابُ الإلكتروني لا يلغي شيئًا بِقدْر ما يُضيف أشياء. الكتابُ فكرةٌ و"مفهوم" وليس "مَحْمَلًا". وأعتقد أنّ هذه المخاوف لا تختلف كثيرًا عن تلك التي عاشها القدامى حين ظهرت المطبعة وحين استكبر الكثيرون أن يُنْسَى الرقّ ويتبخّر الخطّاطون. ثمّ اكتشفوا شيئًا فشيئًا "متعة" الكتاب الورقيّ المطبوع بالمقارنة مع "المخطوطات" السابقة. والحقّ أنّ الخوف من الجديد أمرٌ مُتأصّل في البشريّة. في إحدى محاورات أفلاطون نرى توث أو هرمس يعرض على الفرعون اختراع الكتابة فيواجهه هذا الأخير بأنّها ستكون وبالًا على الذاكرة... لكنّ الواقع أثبت أنّها خلّصت الذاكرة من حدود المكان والزمان ومنحتها القدرة على عبورهما. أعتقد أنّ في وسع الكتاب الإلكترونيّ أن يلعب مثل هذا الدور. إنّه كائن متحرّك خفيف الوطأة سهلُ المنال يمكنك "تنزيله" كلّما احتجت إليه وأنت بعيدٌ عن "مكتبتك". تخزّن منه آلاف العناوين في "قارئتك" أو في "لوحك الذكيّ" فإذا هي طوع أمرك. يحافظ على الثروة الغابيّة ويخترق الحرائق والفيضانات ويتيح لقارئه ما لا يُحصى من إمكانات التصميم والاقتباس والإحصاء وغير ذلك من العمليّات التي تيسّر المُطالعةَ والدراسة والبحث والتبادل إلخ... دون أن ننسى أنّه لا يمنعك في النهاية من أن "تطبعه" إذا أردتَ أن تحصل عليه في صيغة ورقيّةٍ تحتفظ بها في "مكتبتك الكلاسيكيّة". هذا لا يلغي طبعًا ضرورة إعمال الفكر في الموضوع، فالكتاب الإلكترونيّ يظلّ أفقًا مجهولًا على الرغم من كلّ ما سبق، ولعلّنا لم ننتبه بعد بما يكفي إلى ما قد يتركه "المَحْمَلُ" من أثَرٍ في "المحمول". نحن لسنا هنا أمام وسائط تقنيّة محايدة تكتفي بنقل الثقافة بل نحن أمام وسائط تُنتج ثقافة. وعلينا أن نحذر من أن تُصبح القراءة على الحاسوب أو على اللوح الرقميّ أو على "القارئة" فعلاً آخر، ينتقل بنا من فعل المطالعة (Lire) إلى فعل الاطّلاع السطحيّ السريع (Parcourir).
- حدّثنا عن مكتبتك؟
مكتبتي شبيهة بالمتشرّدين الـ S.D.F، الذي لا يملكون محلّ سُكنَى قارّ. وهي في ذلك شبيهة بصاحبها. إنّها مختلفة عن مكتبة بورخيس فهي ليست متاهة. كما أنّها مختلفة عن مكتبة مانغويل فهي ليست مكانًا معيّنًا يُزار ليلًا. إنّها جغرافيا "فيزيا روحيّة" متحرّكة. شبكة من العلاقات مع الإنسان والطبيعة والأفكار والأحاسيس والأخيلة، ليس القليلُ المتعيّنُ منها في هذا المكان أو ذاك إلاّ الجزء الظاهرُ من جبَلِها. يكفي أن أعيش في مترٍ مُربّع كي يُصبح ذلك الحيّز مكتبة، لكنّ العين لن تحيط بها ما لم تنتبه إلى أجزائها أو فروعها الأخرى المتناثرة التي يتوزَّعُ دمُها بين الفضاءات. نحن لا نُقيمُ إلا في الأماكن التي نغادرها كما يقول أوكتافيو باث. لذلك أشعر بأنّ كلّ مكانٍ أقمتُ فيه هو الآن جزءٌ من مكتبتي أي جزء منّي، لا فرق. أتحدّث هنا عن مكتبة متشظّية تطفو شظاياها على السطح وتغوص وتروح وتغدو وتخفَى وتَبِين دون أن تفقد ترابُطها عن طريق خيوط خفيّةٍ متينة. كلّ مدينة، كلّ قرية، كلّ مقهى من مقاهيّ، كلّ تجربة عاطفيّة، كلّ قطار اعتدتُ ركوبه، كلّ جذعٍ اعتدتُ الاتّكاء عليه للتأمّل أو القراءة والكتابة، هو فرعٌ من فروع مكتبتي مترامية الأطراف. بل إنّ لديّ أصدقاء يُخيّل إليّ حين ألتقيهم أنّي أذهبُ إلى مكتبةٍ لأقرأ ما لا يُحصَى من الكتب، بمجرّد الجلوس إليهم والدردشة معهم. سليم دولة مثلًا، توفيق بكّار، حكمت الحاج. دون أن أنسى "المكتبة الرقميّة" الهائلة التي باتت اليوم لا تغادر حاسوبي المشدود إلى كتفي. لذلك السبب، ربّما، لم أقَعْ يومًا فيما يُسَمّى بالتيميّة (أو الفيتيشيزم) في صلَتِي بالكتب أو بالمكتبات. أفهم طبعًا أن يكون لعدد من أصدقائي وزملائي رأيهم المختلف. البعض يدخل مكتبته كأنّه يدخل ضريحًا أو محرابًا ويحرص على ألاّ يغادرها كتاب. هذا النوع من المكتبات المُغْلَقة "المستقرّة" أو "الساكنة" يبدو لي شبيهًا بالمقبرة أو السجن أو القفص الذي يضع فيه عشّاق الطيور حساسينهم الأثيرة. أمّا أنا فأفضّل أن تكون مكتبتي حيّةً متحرّكة تتغيّر مياهها كما تتغيّر مياه الأنهار الحيّة. محطّة عبور. مَضافَة مفتوحة أكون فيها أنَا ضَيْفَ الكُتُب بقدْرِ ما تكون هي ضَيْفِي. وإذا كان لا بدّ من تشبيه فلأقل إنّ مكتبتي عُشٌّ في الهواء الطلق أو في مَهبّ الريح، تستقرّ الكتب فيه بمشيئتها وتطير بمشيئتها. إذا غادرها كِتابٌ ولم يدفعني شيء إلى استعادته، فتلك "علامة" على أنّه ليس كتابي ولستُ قارئه. يندر أن أسافر أو ألتقي أصدقائي في أيّ مكان دون أن أكون مُحمّلًا بكتاب أو أكثر أنتَقيه من مكتبتي ملحًّا عليهم كي يستمتعوا به كما استمتعت. تلك طريقتي في الاحتفاء بالكتب التي تعجبني. ولعلّها لا تعجبني ككُتُب إلاّ لأنّي أُعجبها كقارئ. لا ينجو من هذا "الترحال الدائم" إلاّ الكِتاب "المُهْدَى" المُزدان بتوقيع صاحبه. أمّا الكتب التي "يستعيرها" الأصدقاء "بلا رجعة" فإنّي أعاود اقتناءها قَدْرَ المُستطاع، وإعارتها من جديد إلى كلّ من أرى أنّه يستحقّ قراءتها. فإذا أعدتُ اقتناءها أدركتُ أنّي أريدُها وإذا لم أفعل أدركتُ أنّها لا تُريدني. من ثَمَّ أقول دائمًا إنّ مكتبتي تختارُني بِقَدْرِ مَا أختارُها.
- ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحاليّ؟
فرغتُ من قراءة "نشيد سيّد السبت" لأشرف القرقني، مجموعة شعريّةٌ مُهمّة تُعيدُ قارئها إلى الشعر وتُلفِتُ الانتباه إلى تجربةٍ تتعمّق بتفرّدٍ لا تخطئه العين. وشرعتُ للتوّ في قراءة "وهران" لتوفيق بن بريك، وأنا الآن في الصفحات الأولى.
اقرأ/ي أيضًا: