ألترا صوت – فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
ابتسام الوسلاتي ناقدة من تونس. من أعمالها "الهامشية في الأدب التونسي.. تجربة جماعة تحت السور". تنشر مقالاتها في الصحافة العربية.
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
لا أتذكر بالتحديد متى كان ذلك. كلّ ما أذكره أنني انتقلت إلى عالم الكتب من عوالم الحكايات الشفوية التي كنت مدمنة عليها منذ نعومة أظفاري، فقد كانت أمي تغريني بحكاية كلّ ليلة حتّى أخلد للنوم دون مقاومة. وكنت أنصاع لإرادة الخيال، فالحكاية عندي لا تكتمل برواية أمي لها إنما أكملها خلسة في ذهني، فأنسج لشخوصها قدرًا آخر وأرسم لهم حياة جديدة لا أدري ما مدى تماثلها مع الحكاية الأصل.
قضيت طفولتي أطارد الحكايات، ولا شيء كان يروي هذا الظمأ غير الاستماع إلى المزيد منها، كانت حاجتي إليها مثل حاجتي إلى الطعام والشراب والنوم تتكرر كل يوم. وكانت أختي الكبرى ضحية هذا الشغف، فقد قرّرت أن يكون نصيبها من الحكايات واحدة ترويها لي كل يوم في قيلولة الصيف. وكنت أنتظر الموعد بفارغ الصبر، ولكنها أحيانًا تمتنع عن الاستجابة لرغبتي في ذلك، فأضمرت في نفسي أمرًا بأن أتركها تخلد للنوم وأبدأ في ضفر خصلات صغيرة جدًا من شعرها، وأتذكر أنّها في مرة اضطرت لقص الضفيرة لأنها لم تتمكن من فكّها. وما كنت أستغربه أن أمي لم تكن تعاقبني على هذا الفعل ربما لأنها أدركت أنني منقادة لغواية الحكايات، لذلك لم أستغرب استسلام شهريار لحكايا شهرزاد عندما قرأت ألف ليلة وليلة، فلا أحد يمكنه أن ينجو من سحر الحكاية إذا فتن بها. هذا الإدمان لم أستطع الشفاء منه إلّا بدخولي إلى عالم الكتب في سن صغيرة كانت قراءاتي متنوعة فقد كنت ألتهم الكتب التهامًا، عشقت القراءة واكتشفت من خلالها الحياة في عمقها. كنت مشتركة في المكتبة العمومية وأتردد عليها كثيرًا لأستعير الكتب لقراءتها بلهفة من يحب الكتب لأنّ حياة واحدة لا تكفيه. قرأت حينها لجبران والمنفلوطي وجرجي زيدان ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وطه حسين وحسن نصر وعلي الدوعاجي وبودلير وفيكتور هيغو وكان يحلو لي أن أقرأ كل المجموعة المتوفرة للكاتب الواحد ثم أمضي إلى الكاتب الموالي. كانت الكتب تفتح أمامي عوالم مدهشة وساحرة وكنت أغرق في القراءة وكأنني أصاب بغيبوبة لا أستفيق منها إلا بنهاية الكتاب.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
كانت القراءة سبيلي لأن أتعرف على العالم وأنا داخل غرفتي الصغيرة، كنت أحيا تفاصيل الشخصيات وأعيش حياتهم وأسكن أرواحهم. وقد تعلمت الكثير من الكتب وتأثرت بها فتركت بصمة في ذهني من ذلك رواية "التوت المر" لمحمد العروسي المطوي واحدة من الروايات المحفورة في ذاكرتي قرأتها في سن مبكرة وتدور أحداثها حول حركة نضال الشباب التونسي لمقاومة الاستعمار الفرنسي، وفي خضم ذلك تولد قصة حب جمعت عبد الله أحد الشخصيات مع عائشة الفتاة الكسيحة التي تزوجها رغمًا عن رفض المجتمع القروي لهذه العلاقة، حجتهم في ذلك أنّ عائشة فتاة مشلولة لا يمكنها أن تكون زوجة وأمًّا، ولكن عبد الله يثور على هذه العقلية ويتزوجها ويعيشان في كنف السعادة وتنجب عائشة مولودًا وفي لحظة الطّلق تستعيد قدرتها على المشي ويخرج عبد الله يجري وهو يهذي كالمعتوه.. وقفت. كم بكيت بسبب هذه الرواية وأدركت حينها أنّ الكتابة فعل مقاومة وتغيير للسائد وثورة على الموجود لبناء عالم صالح لأن نحيا فيه.
الكتاب الثاني هو "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. هي رواية استثنائية في تاريخ الرواية العربية، أدخلتني إلى عوالم هذا الكاتب الكبير واكتشفت مشروعًا روائيًا لإعادة كتابة الذات العربية بكل أبعادها العرقية والجغرافية والقومية والثقافية والتاريخية، بعيدًا عن الصور النمطية للشرق والغرب، طرح فيها الكاتب إشكالية العلاقة بينهما والتي تجمع بين الانبهار والتربص والحذر والرغبة الكامنة في الثأر والعنف والجريمة. ويبقى بطل الرواية مصطفى سعيد ممثلًا للجيل الذي خاض تجربة الاستعمار وتشربها حتى النخاع وعلامة فارقة، فهو البطل الذي رأى ألا بدّ من هجوم ثقافي وحضاري على العالم الغربي في عقر داره سلاحه الثقافة والجنس والسياسة، ليعود بعد ذلك إلى وطنه فيخوض معركة أخرى مع القوالب الرجعية المتسلطة في مجتمعه. وأتذكر ما كتبه الطيب صالح وشكّل ملخص فلسفة الحياة عندي "إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة. أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تُزار ثمة ثمار يجب أن تقطف كتب كثيرة تقرأ وصفحات بيضاء في سجل العمر سأكتب فيها جملًا واضحة بخط جريء".
الرواية الثالثة هي "الشيخ والبحر" لهمنغواي ذات السرد الممتع المشوق التي تشد القارئ ليعيش حالة البطل سانتياغو الذي لم يخلق من أجل أن يهزم، فمن الممكن أن يتحطم ولكنه لا يهزم. تجسد هذه الرواية قصة صراع الإنسان من أجل البقاء على قيد الأمل للاحتفال بإصراره وصلابته في مواجهة الطبيعة. هي رواية عميقة تحتمل تعدد القراءات والتأويلات وقد قرأتها لأكثر من مرة، وكنت أكتشف فيها أبعادًا جديدة من خلال النظر في السياق السياسي والاجتماعي الذي صدرت فيه الرواية.
- من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
محمد شكري هو كاتبي المفضل فقد مثلت "الخبز الحافي" منعرجًا حاسمًا في رؤيتي للأدب، معه اكتشفت عوالم فيها الكثير من الجرأة، كتاباته كسرت التابوهات بواقعيتها المريرة، تحدث عن نفسه قائلًا "أنا لست ثوريًّا أنا كاتب متمرد وملعون عاش في الشارع". كتب سيرة أولئك الذين نسيهم التاريخ، عالم قاع المجتمع هناك حيث تعيش الطبقات المهمشة والمسحوقة والمنسية. هو كاتب بذيء ولغته وحشية، وهو من جعلني أتعلم أوّل درس استفدت منه كثيرًا بعد أن اخترت الهامش فضاء بحثيًا، ومفاده ألا أحكم على الأدب أحكامًا أخلاقية وأتجاوز القراءة النمطية والأخلاقية للأدب، لأنّ الكتابة فعل احتجاج ضد العادي والمألوف واليومي والآني. فقد مثلت تجربة محمد شكري الأدبيّة لحظة مهمة في تاريخ الأدب العربي المعاصر، ألهم هذا الأديب المغربي جيل التسعينات وأحدثت كتاباته رجّة في مستوى التلقي وخلقت جدلًا كبيرًا. ومنذ ذلك الحين بدأت الغوص في عوالم تيار الواقعية القذرة مع تشارلز بوكوفسكي، واكتشفت جورج باطاي الذي طبع مرحلة مهمة في مساري البحثي فهو من جعلني أتوقف طويلًا أمام مقولة أنّ الأدب يمثل خطرًا كبيرًا وجديًّا لأننا بالأدب ومن خلاله نكون أمام الأفق الإنساني الذي يعاد إرساؤه ثانية بوضوح، فالأدب لا يتركنا نعيش دون إدراك الأشياء ضمن أفقها الأكثر عنفًا. وهو من يجعلنا نواجه الأسوأ ومعرفة كيفية مواجهته وتخطيه فمن يلعب يجد في اللعب قوّة للتغلب على ما في اللعب من رعب.
- هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟
لا أكتب ملاحظات على أيّ كتاب أقرأه لأنني أعتبر أن الكتابة على الكتاب تشوّهه، في المقابل أكتب على ورقة منفصلة ملاحظات إذا كان الكتاب خاصًّا بعمل بحثي. أمّا الروايات التي أقرأها فإنني أكتب ملخصاتها في كراس وهو ما يحمي ذاكرتي من نسيان التفاصيل المتعلقة بها، ولديّ مجموعة من الكراريس المليئة بالملخصات التي أحب العودة إليها بين الحين والآخر.
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
لم تتغير بتاتًا لأن علاقتي بالكتاب الورقي وثيقة إلى درجة تصعب معها المنافسة. أحب علاقتي مع الأوراق قراءة وكتابة، وما زلت أقف حائرة أمام شاشة الحاسوب لا أدري من أين أبدأ. بداية الفكرة تولد عندي في علاقة شرعيّة مع بياض الورقة، ولكن هذا لا ينفي مزايا الكتاب الإلكتروني، خاصة في مجال البحث، فبمجرد الضغط على زر تجد كتبًا قد يكلفك البحث عنها في المكتبات أيامًا، ولدي مكتبة إلكترونية ثرية ومتنوعة في النقد والشعر والرواية، ولكن في كلّ مرة أبدأ في قراءة عمل أدبيّ على الشاشة لا أتجاوز الصفحات الأولى وأتركه.
- حدثينا عن مكتبتك.
تحتوي مكتبتي في قسمها الأوّل على كتب ورقية تتعلق باختصاصي الأكاديمي، بالإضافة إلى مجلات وجرائد أفتخر بامتلاكي لها فلديّ أعداد نادرة، ومكتبتي بمحتوياتها في هذا القسم هي إمّا ما استفدت منه في أعمالي السابقة أو هي مشاريع الأعمال القادمة، عندما أشتري الكتب تلد معهم أفكار جديدة. وفي جانب آخر فيها كتب وروايات بعضها اشتريته وبعضها الآخر أهدي إليّ من أصدقاء أعزاء، وكم أفرح عندما أمسك بين يدي واحد من هذه الكتب وأقرأ الإهداء فأغبط نفسي كثيرًا على هذه الهدايا الاستثنائية.
أمّا القسم الثاني فيتعلق بالمكتبة الرقمية وفيها الكثير من الكتب من مجالات مختلفة فيها ما أقرأه قسرًا لأنني أحتاجه في عملي وفيها عناوين لأعمال أدبيّة خاصّة المترجمة منها تغريني بقراءتها وقد يحدث ذلك يومًا ما عندما أرمم علاقتي المتوترة مع القراءة على شاشة الحاسوب.
- ما الكتاب الذي تقرئينه في الوقت الحالي؟
الكتاب الذي أقرأه حاليًا على إيقاع زمن الكورونا هو رواية "العمى" للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، وقد تورطت فيها لأنها صورة من هذا المشهد المفزع الذي نعيشه، فهي رواية مرعبة حيث يجد أحد الأشخاص نفسه أعمى فجأة داخل سيارته، ثم يصاب سارق سيارته والطبيب الذي فحصه في عيادته بالعمى. ولا تلبث العدوى أن تنتقل إلى جميع السكان فتحولت المدنية إلى ديستوبيا ولا تنجو سوى امرأة وحيدة هي زوجة الطبيب وتطرح على نفسها سؤالًا وجوديًا: "ماذا يعني أن يكون للإنسان عينان في عالم كل الآخرين فيه عميان؟". في هذا الضباب القاتل الذي يسميه ساراماغو "البياض المشع" تختفي الحضارة التي نتشدّق بها، فأمام الجوع والوباء لا يحفل الناس بشيء أكثر من غرائزهم. وتحاول الحكومة التدخل للحد من انتشار الوباء غير المفهوم الذي ينتقل بمجرد النظر فتجمع كلّ المصابين والمشتبه بحملهم العدوى في مستشفى مهجور للأمراض العقلية، وفي هذا المكان الموبوء تزيد الفوضى واللامبالاة من انتشار الوباء، ويضطر الحراس إلى تهديد المصابين بالقتل فوراً إذا حاولوا الفرار من محاجرهم. لقد أمسكت هذه الرواية الفانتازية الغرائبية بتلابيب الواقع، وكشفت أغوار النفس البشرية وعرّت المجتمع والحياة. فالعمى يعرّينا حين نعجز عن كل شيء ويبقى لكل امرئ حقيقته دون تصنّع، وحينها نرى من يفرون من أحبابهم حتّى لا تطالهم العدوى، ونجد من يرافقون الأغراب ليخففوا عنهم المعاناة. ونقابل من يضحّي بكلّ القيم لأجل جسده، هو عالم من الجنون والرعب والفوضى يرسمه ساراماغو بسخرية حادّة ويختم الرواية بقوله على لسان زوجة الطبيب: "لا أعتقد أننا عمينا بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون".
اقرأ/ي أيضًا: