ألترا صوت – فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
سلمان عز الدين كاتب وصحافي سوري، من مواليد عام 1969. تخرّج من كلية الإعلام في جامعة دمشق عام 1992. عمل لسنوات طويلة في الصحافة المحلية السورية، متنقلًا بين المواضيع الثقافية والاقتصادية، كما نشر العديد من المقالات في صحف ومواقع عربية.
- ما الذي جاء بك الى عالم الكتب؟
كلما دخلنا في نقاش عن حال البلد، عن هذه الأيام الصعبة والأيام القادمة التي تتوعد بالأسوأ، عن المكوث أو الهجرة، التفاؤل أو التشاؤم، الأمل أو اليأس.. فإن شقيقي الأكبر، محمد، يردد العبارة نفسها: "لا أعرف إن كان عليك أن تشكرني أم تلومني لأنني جعلتك تدمن قراءة الكتب". ذلك أنه منذ نحو أربعين عامًا كان قد أعطاني كتابًا لأقرأه، وقال لي إن صدري سوف يتسع وعقلي سوف يكبر، كان كتاب الفضيلة للمنفلوطي، ولأنني لم أكن، وقتئذ، أعرف شيئًا عن المعاصي فإن فضولي كان معدومًا إزاء الفضيلة. طلبت تغيير الكتاب فكان التالي كتاب تاريخ، كتابًا مصورًا عن الحرب العالمية الأولى، وإثر قراءة الصفحة الأولى كان مفعول السحر قد بدأ بالعمل، فعلقت في عالم الكتب ولا أزال عالقًا إلى اليوم.
كان دافعي الأولي السري للإقبال على هذا العالم هو شغفي بطريقة محمد في الحديث عن كتبه. كان بارعًا في ذلك، وكنت أرغب في تقليده، وحتى الآن فإن الحديث عن الكتب يمتعني بقدر قراءتها إن لم يكن أكثر.
كان لديه مكتبة مرتجلة، ينقلها باستمرار بين جدران الغرف الثلاثة التي كانت بيتنا. وكانت محتوياتها تعكس طموح شاب قروي يريد أن يعرف ما استطاع عن هذا العالم. كتب العقاد وطه حسين إلى جانب كتب الجاسوسية وأعمال أجاثا كريستي، وكتب تراثية متنوعة إلى جانب كتب عن الزراعة والحشرات والمداواة بالأعشاب، ماركس وأنجلز وفرويد والمعري والطبري وهيكل ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وحنا مينه..
وقد صاغت هذه المكتبة شكل فضولي، فلا أزال راغبًا في معرفة الكثير عن أشياء كثيرة، وعندما أصاب باليأس وأقرر التزام حدودي، يأتي عنوان ما ليكسر تحريمي ويطلق فضولي من عقاله.
- ما هو الكتاب أو الكتب الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
في البدايات تكون الكتب كلها مؤثرة، كلها تقريبًا تغير رؤيتنا للعالم، بالأحرى: تصوغ هذه الرؤية، ذلك أننا لا نكون قد امتلكنا رؤية متكاملة واضحة خاصة بنا. كثيرة هي الكتب المدهشة في تلك الفترة، مثيرة، عاصفة، وذات أثر مزلزل.. ويحدث أنه عندما نكبر نغدو أقل قابلية للدهشة، إذ نكون قد امتلكنا أفكارنا الخاصة ورؤانا المستقرة، ونكون قد جلنا على أفكار وتجارب وجدانية كثيرة، فتتناقص الدهشة، ويقل عدد الكتب المؤهلة لأن تحدث ثورة في عقولنا ونفوسنا، بل ويقل عدد الكتب التي تغير أشياء أساسية في حياتنا وفي نظرتنا لما يحيط بنا.. ولكن لحسن الحظ يقل ولا ينعدم. ذلك أننا نظل نصادف كتبًا، وإن بوتيرة أقل، تجبرنا على إعادة النظر وعلى تغيير زاوية الرؤية..
منذ بضع سنوات قرأت كتاب "عصر التطرفات.. القرن العشرون الوجيز" للمؤرخ الشهير أريك هوبزباوم، وفوجئت بكم الأوهام والمعلومات المغلوطة لدي إزاء وقائع وأحداث كنت أعتقد أنني عايشتها وأعرف، بالتالي، عنها الكثير..
من بين كتب البدايات السعيدة، والتي أثرت بي كثيرًا، هناك كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين. ما زلت أذكر تلك البلبلة اللذيذة التي سببها لي، وذلك الشعور الغامر بالحرية الذي هبط علي دفعة واحدة. لم تدهشني أفكار طه حسين الذكية واستنتاجاته الوجيهة وتصويبه العاقل لمعلومات وطرائق تفكير وحسب، بل كذلك، والأهم، منهجه القائم على الشك وحرية التساؤل، جرأته في مواجهة المألوف والمستقر، تحديه لسلطة الماضي، إصراره على تنصيب العقل كسيد للأحوال والأحكام، وعلى نزع القداسة عن التراث، ووضع التاريخ على محك النقد العقلي..
- من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
لكل مرحلة عمرية هناك كاتب مفضل أو أكثر. ومع التقدم بالعمر ثمة أسماء تسقط على الطريق، فيما تظل القائمة مفتوحة على أسماء جديدة لحسن الحظ. وهناك أسماء عديدة راسخة لا تتزحزح من مكانها على القائمة. ما زلت أعود بشغف إلى قصص تشيخوف وقصص يوسف إدريس، كتب طه حسين النقدية والفكرية التي ما تزال ملهمة ومؤثرة، مقالات أحمد بهاء الدين ومقالات جورج أورويل، روايات ماركيز ويوسا وامبرتو إيكو وميلان كونديرا، كتب أمين معلوف (غير الروائية) وإدوارد سعيد وحازم صاغية وتزفيتان تودوروف، أشعار السياب ومحمود درويش.. وأسماء أخرى كثيرة..
وهناك دائمًا وباستمرار نجيب محفوظ الذي لا يُمل ولا ينضب، وخاصة أعماله المشغولة بالهموم الميتافيزقية، حيث الأشخاص الحائرون أمام لغز الوجود، الباحثون عن يقين.. هنا أجد نفسي وأشعر أنني لست وحيدًا.
- هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟
قبل سنوات كنت أدون، على دفتر خاص، أشياء كثيرة أثناء القراءة: معلومات عامة، أرقام، تواريخ مهمة.. الآن في زمن النت لم يعد هذا مهمًا، إذ بكبسة زر تحصل على كل ذلك متى شئت.
بالطبع أدون ملاحظات وانطباعات وتداعيات أفكار على هوامش الكتب الورقية، أما في الكتب الالكترونية فأكتفي بتلخيص الأفكار العامة للكتاب إما على الورق أو في ملف وورد..
- هل تغيرت علاقتك بالكتب بعد دخول الكتاب الالكتروني؟
شاهدت على يوتيوب ندوة استضافت الكاتب والمفكر الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو، قبل وفاته ببضعة أشهر، وقد اعترف أيكو بأنه رضخ للتكنولوجيا أخيرًا، إذ اصطحب في إحدى سفراته جهازًا لوحيًا محملًا بأربعة عشر كتابًا اختارها لمرافقته. وقال إنه حسب المسألة بطريقة ميكانيكية بسيطة، فيده ستكون عاجزة بلا شك عن حمل رزمة من أربعة عشر كتابًا، وهو ببساطة لم يجد بدًا من الموافقة على أن تُضغط هذه الكتب في جهاز صغير يملك حجم ووزن كتاب واحد.
شكل هذا الكلام عزاء لي، وذريعة كذلك، وإن كنت قد تحولت إلى الكتب الالكترونية لأسباب مختلفة تمامًا، إذ أن المكتبات صارت، بحكم الأمر الواقع، أمكنة محظورة على كثير من القراء، وأسعار الكتب التي تقفز مع تقافز الدولار حولت المطالعة إلى ترف مكلف. بالمقابل توفر شبكة الإنترنت طريقًا سهلًا إلى عدد لا يحصى من الكتب المجانية، في مختلف المجالات والتخصصات، يوفرها قراصنة خيرون لا هدف لهم إلا خدمة الشغوفين بالقراءة.
بداية، التزمت بتوزيع المهام الذي قرره ماريو فارغاس يوسا: "فالكمبيوتر يفي بمتطلبات القراءة الوظيفية التي نبحث بها عن معلومة أو تواصل سريع. أما قراءة الأدب، القائمة على الأحلام ومتعة الكلمات والإحساس بالحميمية والتركيز العقلي والعزلة الروحية، فلا يمنحها إلا الكتاب الورقي". ولكن شيئًا فشيئًا تجاوزت هذا التوزيع، وصرت أقرأ كل شيء على الكمبيوتر، من دراسة صادرة عن الأمم المتحدة إلى أشعار محمود درويش. صرت قارئ كتب الكترونية نهمًا، وإن كنت لا أزال أحلم بأن تتحول كتبي الالكترونية، بلسمة ساحر، إلى كتب ورقية.
- ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟
أقرأ حاليًا كتابًا ممتعًا للمؤرخ المصري خالد فهمي، عنوانه "كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة"، وهو كتاب تاريخ من ذلك النوع المختلف الذي لا يعبأ بالسلاطين وانتصاراتهم وأمجادهم وبالصروح التي شيدوها.. بل بالإنسان العادي وأحلامه وهواجسه وطريقة عيشه والثمن الذي دفعه لقاء أمجاد السلاطين وصروحهم..
يسعى الكتاب إلى دحض أفكار مرسخة عن محمد علي ومشروعه، ومنها أنه سعى لأن يكون مصريًا رغم أصوله الألبانية، وأنه جاء برؤية تحديثية نهضوية جاهزة ومكتملة، وأن إنجلترا ناصبته العداء "إذ رأت في تجربته الصناعية الوليدة تهديدًا لثورتها الصناعية". وبرأيي فإن الكتاب ينجح إلى حد بعيد في زعزعة هذه المقولات، وربما في نسفها.
اقرأ/ي أيضًا: