ألترا صوت - فريق التحرير
يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.
يعرب العيسى كاتب وصحافي من سوريا، ولد في بادية حماة 1969. عمل في الصحافة منذ عام 1988، ترأس تحرير العديد من الصحف والمجلات السورية. مؤخرًا أصدر روايته الأولى بعنوان "المئذنة البيضاء".
- ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟
مثل الجميع، القصص المصورة كانت لذّتي الأولى، ثم وجدت نفسي بحاجة لزيادة الجرعة في كل مرّة، حتى صرت بحاجة لجرعة من مستوى مذكرات ضابط منشق عن الجيش العثماني، أو كتاب في علم الجينات، أو التاريخ الاقتصادي للقهوة. يحصل هذا في القراءة كما في أنواع الإدمان الأخرى، وفي جمع المال واقتناء الأشياء والتفرّد بالسلطة.
كنت في السابعة حين أحضر لي عمي خضر عددًا من مجلّة أسامة، أذكر رائحته حتى الآن، أذكر حكاية منه كتبتها دلال حاتم، تتحدث عن أميرة اسمها سيسبان، وكانت أغلب قصص العدد مرسومة بريشة ممتاز البحرة، التي ما زالت تسحرني حتى اليوم.
تعلّقت بمجلات الأطفال تعلّقًا مرضيًا، كنت أصاب بحزن شديد حين تنقطع مجلة أدمنتها، وكان التقطّع يحدث لأسباب سياسية (فهمت ذلك فيما بعد)، مثلا بعد كامب ديفيد توقفت مجلات سمير وميكي وميكي جيب، وسلاسل المغامرون الخمسة والشياطين الـ 13، وتوقفت المزمار ومجلتي العراقيتان بعد انقلاب صدام حسين على أحمد حسن البكر.
- ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟
أظنّه كتاب القرد العاري لديزموند موريس. قرأته قبل بلوغي العشرين بقليل، أي في عمر يصعب فيه تلقي صدمة من حجم: الإنسان مجرد حيوان آخر من الطبيعة، وكل تصرفاته يمكن تفسيرها وفق قوانين علم الحيوان. أرجّح أن هذا الكتاب هو من وضع قواعد علاقتي مع العالم، وزرع الشك والاستخفاف بيني وبين كل المقدسات.
- من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟
ألا يحلّ لنا من الكتّاب مثنى وثلاث ورباع؟ إذا لم يكن الحال كذلك، فأنا من أولئك الذين لا يستطيعون الإخلاص لكاتب واحد. ككل العلاقات البشرية تصل علاقتي بكاتب ما حد الوله، ثم تبرد بالتدريج، يرتكب أحدنا خطيئة بحق الآخر، فتبهت تلك العلاقة، مثل أن أضبطه في غرفتي وعلى سريري وقد كتب كتابًا محبطًا، أو التقي في الشارع (لا فرق بين بسطة كتب وموقع الكتروني لقرصنة الكتب) بكاتب آخر يخطف قلبي، فأضعف وأقع أسيرًا لنزواتي. أحاول إخفاء الأمر عن كاتبي المفضّل السابق لأطول وقت ممكن، لكن ـ وكما يحصل دائمًا ـ أسقط في فخ العثرات الفرويدية، فاستشهد بالكاتب الجديد في كل مناسبة، أجعله "حديثي بين جلّاسي، وأرى منه خيالًا في الكاسِ" أحنّ إلى الكاتب القديم أحيانًا، أحاول مراضاته، أحوم حول فصول محددة من كتبه، أراوده عن نفسه، أتتبع أخباره الجديدة.
الروائيون والباحثون والمفكرون ومبسّطو العلوم، أتنقل بينهم دون شعور بالإثم، لكن الشعراء تحديدًا لا تتقلّب علاقتي بهم كثيرًا، رغم أنهم كثر، ولا أعرف إن كان عددهم يضعني في خانة الشبق المرضي. دائمًا ودون انقطاع أحب المتنبي والمعري وشوقي ودرويش وبورخيس وفرناندو بيسوا، والشعراء المجهولون في حوض الفرات الذين يؤلفون الموليا.
- هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟
بسبب القراءة على الكومبيوتر صارت عملية نسخ الاقتباسات أسهل. أستخدم تطبيقين لحفظ الملاحظات واحد من مايكروسوفت استخدمه للجمل القصيرة، والاقتباسات اللامعة، وواحد من غوغل استخدمه للمقاطع الكاملة، والأفكار والمعلومات التي سأحتاجها لاحقًا. أحيانًا أقرأ فكرة في كتاب ما فتوحي لي بفكرة تعارضها أو تجاورها أو تستند عليها، في هذه الحالة أكتبها مباشرة ولا أحتفظ بالاقتباس.
بعض الكتّاب بالنسبة لي هم اقتباسات فقط، لا أستطيع التعامل مع كتبهم ككتلة واحدة، وهذا ينطبق على نيتشه واميل سيوران، كما ينطبق على إداوردو غاليانو، ونيكوس كازتزاكس (باستثناء زوربا طبعًا).
- هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟
كثيرًا. لم أعد أقرأ على الورق إلا نادرًا. بدأ الأمر لأسباب موضوعية، وهو أني أعيش في بلد لا تصله الكتب الجديدة إلا نادرًا، اعتدت قراءة الكتب الكترونيًا، ثم صرت أشعر ذلك أسهل وأمتع.
التغير في التقنية سيجلب معه تغيرًا في عادات القراءة، فصرت مثلًا أقرأ كتابين في وقت واحد، اتنقل بينهما حسب مقتضى الحال. فيكون هناك كتاب نهاري وكتاب ليلي، كتاب للقراءة اثناء وجود تشويش وضجيج واتصالات هاتفية أو في ضجيج الحياة العادية في البيت. وواحد للقراءة الهادئة في السكون. أو كتاب أقرأه لأني أحتاجه، وكتاب أقرأه لمتعتي الشخصية، وبهذه الحالة أتعامل معهما بغرابة، فأعتبر الكتاب الأول واجبي الوظيفي، والكتاب الثاني استراحتي ومكافأتي، واتنقل بينهما على هذا الأساس.
- حدّثنا عن مكتبتك؟
أتخلى عن الكتب بسهولة، ولا يعنيني الاحتفاظ بالكتاب بعد قراءته، عادة يحتفظ القارئ لكتب ذات طبيعة موسوعية للعودة اليها بشكل دائم، قواميسي وموسوعاتي موجودة على سحابة غوغل. والكتب التي حافظت عليها هي كتب شعرية غالبا أعود لقراءتها بشكل دائم. مكتبتي الفعلية صغيرة، لم تكبر منذ خمسة وعشرين عامًا، لدي خزانة خشبية من ستة رفوف وبطول جدار الممر بين الغرف. ولا أستطيع أن أمتلك كتبًا أكثر مما تتسع رفوفها. حين أحصل على دفعة جديدة من الكتب، عليّ أن أختار عددًا مطابقًا يجب التخلي عنه من الكتب القديمة. وهذه الكتب تكون عادةً من نصيب قريب أو جار شاب دخل الجامعة للتو، أو أظهر اهتمامًا بالقراءة. طبعًا لا يخلو الأمر من بضع صناديق هنا وهناك، فوق السقيفة، أسفل خزانة الملابس داخل السرير. لكني لم أتفقدها منذ سنوات. حين أرغب بذلك، يغلبني الكسل وأقول لنفسي: لو كان فيها شيء مهم لما وضعتها هناك أصلًا. باختصار، ظل عدد الكتب عندي ثابتًا منذ اشتريت تلك الخزانة، ولذلك فمكتبتي في حالة تجدد دائم، أظنها أكثر مكتبة شخصية مواكبة بين كل المكتبات التي أعرفها، وفي السنوات الأخيرة صارت ابنتي شريكتي في تلك الخزانة، وبدأت أنتبه مؤخرًا أن كتبها تحل مكان كتبي، وقريبًا ستحتلها بالكامل. وفي حال حصل ذلك أرجو أن تترك لي الكتب التي عليها اهداءات ثمينة من أصدقاء رحلوا، وديوان بريخت.
- ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟
يدللني صديقي الناشر بين الفينة والفينة بكتاب لم يصدر بعد. كنت أقرأ كتاب الطاعون في العصر الأموي لأحمد العدوي، وضعته جانبًا لأتنعّم ـ قبل كل قرّاء العربية ـ بهدية صديقي الناصري وهي رواية جديدة لخوان ميّاس.
اقرأ/ي أيضًا: